Header Ads Widget

الكنز. بقلم الدكتور تامر حلمي فتوح

 الدكتور تامر حلمي فتوح يكتب


#الكَنز
جائعين.. يمران بقرية، فيطلبان طعامًا، لكن أهل القرية لئامٌ، أبَوا أن يُضيِّفوهما.. قرية بكاملها وتأبى إطعامَ ضيفين، يالشؤم هذا المجتمع الفاسد!! هو يُحرَم الخير -لا محالة- ولو عظُمَت مواردُه؛ فالكَنز تحت الجدار قريب!!

وبينما هما كذلك وجدا فيها جدارًا يريد أن ينقضَ فأقامه الخَضِر، وموسى يقف متعجبًا صنيعَه: انت بتعمل أيه!!
لكن كيف أقامه ولم يكن معهما مال ولا شيء؛ وإلا لكانا اشتريا به طعامًا؟! وهل كان محترفًا بالبناء؟! وكيف ينظر له أهل القرية وهو يقيم جدارًا منقضًّا؟! هذا كله لو أنه أقامه بالطريقة بالمعهودة.
(فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا).

الخَضِر يعلم -كشفًا- أن تحت الجدار كَنز، وأنه لغلامين يتيمين في المدينة، وأن أبوهما كان صالحًا..  واضحٌ أن للخَضِر اطلاع على أجيال، وخرائط زمانية ومكانية، وإلا لما مر بهذه القرية بعينها، وبهذا الوقت الذي يريد الجدار فيه أن ينقض، ويوشك الكنز أن يظهر فيضيع على صاحبيه (وما فعلتُه عن أمري)!!

لكن إرادة ربنا أن الطفلين سيبلغان أشدهما، ويستخرجان كَنزهما الذي لا يعرفانه الآن، ولا دريا به.. لكن يومًا ما سيهديهما ربُّهما إليه.
ثم الغلامان يربيهما ربهما على الإيثار لا الأثرة والأنانية، سيبلغان ويستخرجان كنزهما معًا.. ومثلهما بهذا الرُّقي لن ينشأ في قرية كتلك، لا حظ التفريق في السياق القرآني بين مكان الكنز (القرية)، ومكان الغلامين (المدينة).

وتأمل كيف التدبير الإلهي لهما من حيث لم يحتسبا، وما من سببٍ يستوجب ذلك لهما غير صلاح أبيهما، الذي ربما لم يرياه أو يتملّيان منه!!
كنزٌ بحالِه ينتظرهما، ويُقيَّض له نبيَّان، أو نبيٌّ وولي، فيأتيانه من بعيد، ويتحملان مشقة السفر، وسوء أهل القرية.. كل ذلك لا لشيء غير أن يحفظاه لطفلين، وانظر حركة الأنبياء والأولياء؛ هي لا تكون لأغراض دنيوية خسيسة، يتحركان تُجاه الكنز لا للكنز، فيعيونهم لا ترى هذه الاشياء، يتمحض نظرُهم لله وفي الله وبالله.

 لو أنَّ غير الخضر مكانه لربما استغفل أهل القرية اللئام، ونقضَ جدارًا يريد أن ينقض بنفسِه؛ ليجد الكنز. ويهنأ به، ولربما استأثر به دون صاحبِه!!

أما أن يُقيم الجدارَ -وهو لا يجد طعامًا- ليحفظ به كَنز الغلامين اليتيمين، إلى أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كَنزهما.. فلا غرو؛ فنفوس الأنبياء يستوي عندها الكنز والتراب.
(وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا)..
لماذا هذا كله؟ (رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ)

ألا فلتعلم: أن الكَنز الحقيقي الذي تدخره لأبنائك هو صلاحُك، هو كنز المعنى لا الحس.. هذا هو ما حفظ لهما الكنز المادي، وجعل الأنبياء يخدماهما، ونشَّأهما تنشئة صالحة حتى في اليُتم وغياب الأب.

نرجع إلى كونهما جائعين لا يلويان على شيء، ومع أنهما أنبياء إذ بهما يستطعمان الناس بلا أدنى غضاضة، نفوس بسيطة لا كِبر فيها.. نفوسٌ كبيرة.

أما الإشارة: فإن أردتَ الكَنز فاهدم جدارك، واستخرِج كَنزك، وطريقُك لهدمه هو صلاحُك.
فعلى سيدنا موسى السلام.
وعلى سيدنا الخَضِر السلام.
وعلى الغلامين السلام.
وعلى أبيهما الصالح السلام.
وعلى سيد الأنبياء السلام.

#تأملات_في_النص_القرآني