Header Ads Widget

يوميات جيولوجي في باطن الأرض بقلم الدكتور أحمد أبو ستيت

 يوميات جيولوجى فى باطن الأرض.

أستاذ الجيولوجيا بهيئة المواد النووية 

في الحجرة الخشبية الواقعة في حضن الجبل نجلس على الأسرة القديمة المتهالكة استعداد لمتابعة العمل فى المنجم الذي يبعد عن الحجرة مسافة قصيرة، نتحدث فى أمور شتى، منها مايتعلق بالعمل ومنها مايتعلق بحياتنا الخاصة.

 على إحدى هذه الأسرة يجلس زميلنا، ذلك الفتى الأسمر، خفيف الظل، بشوش الوجه، طيب القلب، القادم من صعيد مصر، يجلس ممددا قدميه التى تبدو سمراء متشققة من جفوة الحياة فى الصعيد لدرجة أن الفئران الصغيرة كانت تتخذ من شقوق قدميه مسكنا لها. 

ومن عجائب القدر أن هذا الفتى كان مميزا عن الجميع فى ملابسه وأدواته الشخصية التى كانت تصل إليه من فرنسا كهدايا من أخيه المهاجر منذ زمن بعيد، فلا عجب أن تراه جالسا على سريره وممسكا بماكينة حلاقة كهربية حديثة الصنع يحلق بها شعر ذقنه الذى يبدو كحشائش الغابات الكثيفة، وبجواره زجاجة العطر ذو الماركة العالمية، والتى كان يعاملها كزجاجة الزيت فيأخذ منها العطر بالملعقة.

على حين غفلة يأتينا عبر الأثير صوت صافرة مهندس المناجم المتواجد عند المنجم، ذلك الصوت الذى يعنى أن المنجم أصبح جاهزا للعمل بداخله.

نهب من على أسرتنا مرتدين الخوذة على رأسنا، والجوانتى السميك فى أيدينا، والملابس الواقية التى تناسب العمل داخل المنجم، حاملين معنا أدوات العمل من بوصلة وشاكوش وخرائط وأقلام وجهازا صغيرا لقياس رتبة الخام.

نصل إلى المنجم، وهو منجم رأسى فى صخور جرانيتية، يمتد إلى أسفل بعمق أربعين مترا من سطح الأرض، ويتفرع من أسفل إلى فرعين أفقيين. 

والنزول فى هذا المنجم يتم عن طريق مصعد بدائى الصنع، قام بتصميمه مهندس المناجم وفريقه المعاون من الفنيين ذوى الخبرة بالموقع، المصعد عبارة عن صندوق حديدى معلق بسلك فولاذى على كامرات خرسانية، والسلك ملفوف على بكرة تدار بموتور كبير قديم، ويتحكم فى حركة الموتور أحد الفنيين بالموقع.

ننزل فى الصندوق الحديدى بحذر شديد، واحدا تلو الآخر، ناطقين الشهادتين استعدادا للموت الذى يرافقنا فى هذه الرحلة الشاقة، ويبدأ الصندوق فى الهبوط بنا، نظرات الزملاء حولى تذكرنى بنظرات عبد السميع البواب وأسرته حين ركبوا المصعد لأول مرة بين أحداث فيلم "البيه البواب". 

تمر الدقائق وكأنها ساعات طويلة من الخوف والرعب الذى يتملكنا، فالصندوق يلف بنا ذات اليمين وذات اليسار مصطدما بحوائط المنجم فنشعر كأننا فى قطار الموت فى مدينة الملاهى. 

تعلو أصواتنا تارة وتنخفض تارة أخرى، وتكاد قلوبنا تقف من الرعب والخوف من الموت الذى يحفنا، ولا نخرج من حالة الرعب هذه إلا عندما نصل إلى نهاية المنجم الرأسى فنتنفس الصعداء ونخرج من الصندوق الحديدى متجهين إلى المنجم الأفقى، نسير بحذر شديد بين مواسير التهوية وأسلاك الإضاءة، يتقدمنا أحد الفنيين ممسكا بعتلة حديدية يسقط بها قطع الصخور المفككة من سقف المنجم حتى لا تنهار علينا، أما نحن فنسير خلفه بخطوات محسوبة، منا من يمسك البوصلة لقياس التراكيب الجيولوجية المختلفة على حوائط المنجم، ومنا من يمسك بالكاميرا لالتقاط صور لهذه التراكيب، ومنا من يمسك جهازا صغيرا لقياس رتبة الخام.

نظل فى المنجم لبضع ساعات نعمل فى حذر شديد، فالعمل في المناجم محفوف بمخاطر عدة قد تتخطى الإصابة وتصل إلى الوفاة، حيث نواجه عديد من المخاطر، مثل انهيار المنجم، ويكمن الخطر هنا في سقوط الصخور الثقيلة علينا مما قد يسبب الوفاة أو الإصابة. وقد تؤدي جزيئات الغبار الناعمة الناتجة عن عملية الحفر إلى أمراض رئوية خطيرة بسبب تراكم الأتربة.

بعد أن ننهى عملنا نلملم أدواتنا متجهين إلى الصندوق الحديدى للصعود فى رحلة رعب جديدة إلى سطح الأرض، ونعود إلى حجرتنا الخشبية ملقين بأجسادنا فوق الأسرة منتظرين صافرة جديدة من صافرات مهندس المناجم للقيام برحلة جديدة فى باطن الأرض٠