مقالات - أقلام حرة - أشرف مصطفى توفيق :
مقدمة :
هذه المقالة دخلت بها فى منتصف التسعنات مسابقة يوسف السباعى للمقال النقدى وفزت . وقد شجعتنى على دخول المسابقة الصديقة والاديبه الكبيرة "سلوى بكر" كانت ترى أنى ناقد واعد ،والحت أن أدخل معهد النقد ،ولم اطاوعها؟ ولكنى دخلت المسابقة "مسابقة يوسف السباعى للمقال النقدى" ثلاث مرات متتالية وفزت فيها كلها ،مرة بهذه المقالة ،ومرة عن رواية نجيب محفوظ "اولاد حارتنا"،ومرة عن تجربة الحكيم فى مناجاة الله!! .
المقال :
يبدو أن يوسف إدريس -على عكس النبي زکريا- دعا ربه أن يكون فرداً، فجاء مختلفاً عن كل الأدباء والكتاب.
صنع لنفسه ترکيبة إدريسية خاصة ومذاقاً خاصاً، هذه التركيبة تقترب أو تبتعد عن الواقع لا يهمه،أو لا يهم؛ فلقد قرر أن يكون المشاغب الثوري العاشق الذي ينزل بحار الممنوع ويغوص في المحظور ..
كان يرى أن من حق الفنان أن يقول كل شيء، ويفعل أي شيء دون ضابط ما دام مخلصاً فيما يقوله ويفعله، دعا إلى الغوص في الفن، الحرية المطلقة دون أية عوائق، وحتى لو كانت تلك العوائق هي قوانين الإبداع الفني نفسه.
وله قولة غريبة في ذلك:
"الفن هو الرؤية، هو النظرة الجديدة لأي شيء وليس القالب الحديدي المتكرر الممل، ما دامت هناك رؤية مبتكرة فهذا فن، ولا ينقسم الفن إلى قصيدة، ومسرح ،ورواية ،وشعر. من الذي فعل هذا، وقسمنا نحن المبدعين".. يوسف أدريس
يوسف أدريس كاتب غريب الأطوار !!
أنه المؤلف الذى اعترض على "نظرية موت المؤلف" وقرر ألا يصمت بعد عمله بل يرد على من نقده، ويتدخل فى كل شيىء إذا جاء من يريد تحويله للمسرح أو السينما. ويستغرب الجميع أقواله الحادة عن بعض الظواهر ومطالبته بنفسه بحقوق لا يتمتع بها أحد كحقوق الفنان في ممارسة التجارب الكثيفة في الجنس، والتحليق الفكري، والتجارب الوجدانية، التي تخرج على الشائع والمألوف والسباحة مع التماسيح وأسماك القرش، والتحليق في أعلى القمم، التي لم يعرفها بشر، لکي يحول هذه التجارب القصوى ذات اللهب إلى كتابة فنية جديدة طازجة.فلم يعد هناك فرق لديه بين ممارسة الحياة اليومية العادية، وبين خوض التجربة الفنية الكثيفة.
إن الكثير من غرابة سلوكه الظاهري لا يرجع إلى خلل في الأخلاق بل إلى شقاوة الطفل الفنان وهو يحرق أصابعه في نار التجربة الجديدة، لأنه يريد أن يغوص في جوهر التجربة، إلى آخر آفاق الإحساس الإنساني، إلى أخر آماد العقل والتفكير إلى إفناء العقل في هاوية الغيبوبة وتتبع الصور والرؤى المنطلقة. ولهذا كان يمر بأزمات شديدة أهمها في رأيه أنه يملك اعتقاداً بأنه لم يحقق ما كان يصبو إليه في الكتابة الفنية؛ فيوسف إدريس فردي يرى العالم بعينه هو، وللعالم مذاق خاص عنده!!
يوسف إدريس والنساء
وإذا تحدثنا عن علاقته بالمرأة، سنجد أنه لديه آراء ومعتقدات لا تنتهي عنها ( فمثلاً مما قاله في كتابه "ذكريات يوسف إدريس" لرشاد کامل:
"يا عزيزي.. أرجو ألا يغضب أحد من كلامي.. أنا من أنصار أن يحدث طلاق واثنان وثلاثة إلى أن يقع الإنسان على اختيار صحيح بدلاً من أن يضيع العمر في اختبار شيء!!. يوسف إدريس
ويقول "أنا لست من أنصار أن لا يهدي الكاتب شيئاً مما يكتب لزوجته". وحتى وقت قريب لم أكن أستطيع أن أكتب و "رجاء" - يقصد زوجته – بالمنزل، كنت أبعث بها إلى أمها؛ فالكتابة عورة كنت لا أطلع عليها أحداً إلا بعد أن تصبح متدثرة في المطبعة!!
ولم يكن من الكتاب الذين يحملون فلسفة "أنا مسئول عن العمل المكتوب وحده" وإنما كان يقول: أنا مسئول عن آى عمل وضع تحته اسمي من الجلدة للجلدة!! ولذا لم يعترف للمسرح والسينما بأنهما عالمان منفصلان عنه؟! وإنما قرر أن يكون النص هو السيد في كل الفنون ولذا تجده يختار بطلات اعماله فى السينما ويجلس معهن ولقد فعل ذلك مع "نادية لطفي" فى قاع المدينة، و "فاتن حمامة" فى الحرام !!
أنه لا يؤمن بنظرية : موت المؤلف فهو يتدخل بعد الكتابة ويحب أن يكتب هو السيناريو لاعماله..ويختار بطلات اعماله،ويعاند المخرجين ليكون النص هو البطل فى المسرح والسينما، كما هو فى الكتاب؟! ولم يعرف كاتبة أو فنانة أو واحدة إلا وأطلق عليها في اللقاء الأول عبارة "صديقتي"وقد انبهرت "نادية صالح" وهي تسأله في برنامجها "من مكتبه فلان" عن أصدقائه: فقال "نادية صالح" وكانت أول مرة تقابله!!
ولذا قدم لاعمال كل من عرفهم من نوال السعداوى لصنع الله ابراهيم حتى منى حلمى، وحينما قدم مجموعة "منى حلمي" قال في التقديم:
لازلت أذكر تلك الليلة كنت في زيارة للصديقة نوال السعداوي؛ فنوال كاتبة مفكرة ثائرة قصاصة كکتلة ملتهبة من الشمس، انفصلت واستقرت على الأرض ولا تزال شمسية ملتهبة،لم تبرد بعد ولا أعتقد أنها ستبرد .
وبعد عشرة أسطر عن د/ نوال السعداوي تحدث عن ابنتها "منی" صاحبة مجموعة قصص"أجمل يوم اختلفنا فيه!!" ثم أنه اختار من عبارات المجموعة أقربها لنفسه:
علاقتي بقلمي کعلاقتي بملامحي وأعضاء جسمي، علاقة نفسية وعضوية، أحملها داخلي، أتنفس بها أتحرك خلالها، أحلم معها، أغضب من أجلها وأهدأ فيها.. ليقدم المجموعة!! ولهذا لم يكن صدفة أن يسير في جنازته ست کاتبات:
فريدة النقاش، اعتدال عثمان، ود.نهاد صليحة، وسلوی بکر، ونهی رضوان، وفوزية مهران..
وحضرت سناء البيسى الدفن مع زوجته، واصدرت عنه فى مجلة "نص الدنيا" فيما بعد عدداً خاصاً!!
وكان زواجه حدثاً غريباً جعل "نعم الباز" تضع زوجته مع من وضعت في کتابها "زوجاتهم وأنا" سنة ۱۹۷4 فقد وصفت يوسف إدريس بالغرابة "كان غريباً تختلط فيه الرقة المفرطة بالعنف الشديد.. كان صريحاً بشكل عجيب.."حدثته وكأني أعرفه من زمن بعيد".
وقالت إنها منذ شعرت بأنه وضوح وغموض، عنف ورقة، وكأنه باستمرار هدف يسبق عاصفة.. ولكنك لا تعرف هل بدأت أم سوف تبدأ.. ظلت تشفق على زوجته حتى قبل أن تراها "لأنها سمعت منه أنها صغيرة وأنه رآها فعبر لها عن ذلك بقوله "فقررت أن تكون لي" وتزوجها بعد فترة قصيرة!! وكان هذا الحوار بين الزوجة ونعم الباز بعد 9 سنوات زواج!!
- کم عمر زواجك..؟
-9 سنوات.. هي عمري تقريباً.. فقبلها لم أكن شيئاً يذكر.. كنت فتاة صغيرة مثل مئات الفتيات في بلدي.. أخذت قسطاً من التعليم بالمدارس الفرنسية، وألتقط من الجرائد ما أريده "أخبار الموضة، أخبار البنات.. أقرأ قصة.. ثم جاء إلينا يوسف صديقاً لأحد أقاربي.. وجدت نفسي مشدودة إليه.. لقد كان بالنسبة لي فارس الأحلام وكنت في قمة حلمي حينما تقدم لخطبتي فعلاً.. وتم زواجنا بسرعة وتعجب الكثيرون لهذا الزواج.. فكيف يتزوج الكاتب الذي مازال في أول الطريق يمشي على الحصى من فتاة صغيرة تمشي بحذر إلى دنيا أخرى جديدة وتتلمس من يأخذ بيدها في هذا الطريق الجديد.. كل منا يتحسس طريقه ولم يتبين بعد.. أما أنا فكنت أعتقد أن طريقي مفروش بالورد ومعي فارس ذو العيون الخضر..
ولكني فوجئت بالأشواك وفوجئت بالظلام يلفني في كثير من فترات حياتي الأولى معه كان بالنسبة لي كالجبل أريد أن أتسلقه لأستريح فوق القمة.. عند الجنة التي كان مفتاحها صعب العثور عليه وكثيراً ما أطل الفشل بإصرار..ولكن كنت أحاول أن أصل إليه.. كان متناقضاً وعجيباً مرة حنوناً رقيقاً ناعماً ومرات عزوفاً بعيداً عني.. كنت لا أعرف متى أقترب منه ومتى أبتعد عنه؛ فقد كان بالنسبة لي شخصيتين الأولى الطبيب مفتش الصحة الذي يخرج صباحاً لعمله ويعود ظهراً، والثانية فنان أديب فيه كل ما في الفنانين من حساسية والتقاط لما حوله وكأنه مغناطيس أو كاميرا حساسة جداً.. وكنت أنا ضحلة في معلوماتي قراءاتي كلها خفيفة جداً.. وربما كان توفيق الحكيم هو الكاتب الذي يشدني للقراءة ولكن لم آخذ من القراءة رکناً مهماً في حياتي.. وكان لا بد أن أحاول الوصول إلى منابعه، وكان لا بد أن نتقابل أو حتى نمسك بخيوطنا التي تتعقد...
- متى اهتز بكما عش الزوجية بعنف؟
- قالت وكأنها تغلق صندوقاً لن يفتح إلى الأبد..اهتز كثيراً وبقسوة حينما كنت صغيرة.. عندما كنت على أبواب تفكيره.. وأعتقد أن هذه الهزات هي التي جعلت العش المصنوع من القش ينقلب إلى عش متين البنيان ولكن فيه رقة العش وحنانه ودفئه، وفي رأيي أن الحياة الزوجية التي تمر بفترات قاسية وهزات عنيفة عمرها أطول وبنيانها أقوى من الحياة الزوجية العادية التي تكون كالماء الفاتر الذي لا يمر بمرحلة الغليان أبداً.. ومن رأيي أيضاً أنالتعارض والاحتكاكات هي التي تخلق التفاهم وتقارب من وجهات النظر.فهل كانت نعم الباز تعرف حكايته وغرامه مع تلك المغنية؟!
- سألتها:ما هي القصة التي هزتك من قصصه ؟
- قالت بسرعة: هزتنی قصة اسمها "اللعبة"، وهي قصة لا تحکی، ولكنها عند قراءتها تعطيك إحساساً معيناً وتفكيراً معينا، وربما لا تكون أحسن قصصه ولكنها جعلتني بعد قراءتها أنشغل بالتفكير فيها وقتاً طويلاً.. أما القصة التي جعلتني أبکي فعلاً فهي "لن تقوم القيامة".
يوسف إدريس والجنس
أما إذا تحدثنا عن علاقة أدبه بالجنس منذ نشر أول قصة له بعنوان "أنشودة الغرباء" سنة ۱۹5۰ ومجموعة "أرخص ليالي" سنة 1953 فيکفي أن نشير إلىوجود ثلاث دراسات عن أدبه استخدمت فيها عبارة "الجنس
- دراسة الجنس والمجتمع في مجتمع قاع المدينة عند يوسف إدريس "کاترين کويام
- دراسة فلسفة الحرام عند د/ يوسف إدريس "د/ غالي شکري"
- دراسة قانون الصمت في أدبه بين الدين والجنس "کاترين کويام"
ويكفي أن نقرأ مجموعة "بيت من لحم" وقصة "بيت من لحم بالذات" أو رواية الحرام التي صدرت عن الكتاب الذهبي سنه ۱۹5۹ لتعرف فلسفته الخاصة في الجنس والتي تشبه لحد كبير ما يقوله العالم النفسي "فرويد".. الجنس هكذا بلا سبب،إنه عذابنا الذي أصابتنا به لعنة الآلهة منذ آدم.. أو نحن نعذب به.. كما كانت آلهة الأولمب تعذب تنتالوس بأكثر من عذاب وأكثر من صورة.. ولكن الإله العبقري الحقيقي.. عذبنا بشيء واحد : الجنس + وانفخ يا إبليس".
فى "بيت من لحم" يرضخ الجميع للقانون، وتدور لعبة الخاتم في صمت لا يخرقه أحد، تزوجت الأرملة من المقرئ "الضرير" والبنات الثلاث جائعات محرومات جنسياً، والخاتم هو الوسيلة الوحيدة المتاحة للشيخ الضرير، لمعرفة "حلاله" وبالخاتم "الشرعي" الذي يحلل الحرام .
تبدأ القصة: الخاتم بجوار المصباح، الصمت يحل فتعمي الآذان، في الصمت يتسلل الإصبع، يضع الخاتم في صمت أيضاً المصباح، والظلام يعم،في الظلام، أيضاً تعمي العيون.الأرملة وبناتها الثلاث/ والبيت حجرة/ والبداية صمت.الأم وبناتها،وكلهن مبصرات، صامتات. أما الشيخ الضريرولأنه ضرير،فإنه يضحك، وينکت، ويغني حتى يستبدل الإحساس بالبصر الضائع، كان أول الأمر يقول لنفسه إنها طبيعة المرأة التي تأبى البقاء على حال واحد؛ فهي طازجة صابحة كقطر الندى مرة ومنهكة مستهلكة كماء البرك مرة أخرى، ناعمة كملمس ورق الورد مرة، خشنة كنبات الصبار مرة أخرى،ولكن الخاتم دائم وموجود صحيح، ولكن وكأنما الإصبع الذي يطبق عليه كل مرة إصبع مختلف، إنه يكاد يعرف، وهن بالتأكيد كلهن يعرفن، فلماذا لا يتكلم الصمت، لماذا لا ينطق؟ ولكن السؤال يباغته ذات عشاء، ماذا لو نطق الصمت؟ ماذا لو تكلم؟ مجرد التساؤل أوقف اللقمة في حلقه، ومن لحظتها لاذ بالصمت تماماً، وأبی أن يغادره. بل هو الذي أصبح خائفاً أن يحدث المكروه!!
ويری "کاترين کويام" أن هذه القصة هي المعالجة العصرية لما جاء في التوراة في سفر التكوين عن لوط..وقالت البكر للصغيرة: "أبونا قد شاخ، وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة أهل الأرض هلمي نسقي أبانا خمراً، ونضطجع معه، فنحيي من أبينا نسلاً" فسقتا أباهما خمراً.
أما في الحرام "فلاحظ لحظة القرار بالجنس عند يوسف إدريس، كيف يربطه بظروف السقوط الاجتماعي" ولا يعطيه أبعاد العاطفة والحب ويعمد إلى إبراز قطبي العلاقة فيه، وكأنها ممثلة للخير والشر" وفي إحدى لحظات الدلع عند المريض، طلب الزوج من عزيزة: نفسي في البطاطا يا عزيزة.. وذهبت عزيزة، أخذت تضرب بالفأس دون جدوى. لمحها ابن صاحب الحقل، فأقبل يساعدها في البحث عن البطاطا ونجح فعلاً في أن يعثر لها على حبة منها.ولكنها في لهفتها لم تفطن إلى الحفرة التي كانت وراءها، وعلى هذا سقطت فيها وما كادت تحاول أن تقوم حتى كان محمد إلى جوارها في الحفرة يساعدها. مرة واحدة وجدت نفسها في حضنه وقد أطبق عليها بذراعيه ليرفعها.."
أما القصة التي أثارت زوجته فهي قصة "لأن القيامة لا تقوم" والتي وردت في مجموعة "لغة الآي آي " ص ۱۱5 فهي قصة طفل يرقب خيانة أمه مع عشيقها يصف لقاءها بأنه شيطاني متوحش!! الصغير فى كتاب الدين يقرأ أن السماء اهون على الله أن تنطبق على الارض على أن تأتى امرأة بفاحشة بين فخذيها ..ويسأل لماذا لا تقوم القيامة؟! ونفس المعنى في قصة "الأوتوبيس ۹۹۹" أو سنويزم أو الأوباش عن اللعبة الجنسية البشعة في الأتوبيس والتي انتهت أخيراً في ۱۹۹۲ بحادث فتاة "العتبة" التحرش الرخيص المهين.يقول عنها د/ يوسف إدريس: "اللعبة تتم في صمت، ولا أحد يخرج على قواعدها، والقاعدة أنك ما تشوفش، وإذا شفت كأنك ما شفتش، وإذا حصل لغيرك مالكش دعوة، وحتى إذا حصل لك، حل عبقري. مش كده؟" إن القهر الجنسي غير الإنساني، الذي تتعرض له المرأة في الأتوبيس لا يعني أحداً وعندما يثور الأستاذ الجامعي الدكتور عويس فى قصة "سنويزم " ثورة محدودة .تطلب منه المجنى عليها أن يصمت ولا يفضحها؟!
أما عالم السياسة عنده فمعروف بانتقاله من القصة القصيرة إلى كتابة اليوميات ثم المذكرات ثم محاولة أن يكون له وجهة نظر مع وزير الثقافة ورفعه دعوی عليه وكيف أنه کسبها؟! ثم في حواره مع رئاسة الدولة حتى حاول أن يقوم بدور في العلاقة المصرية الليبية في وقت كانت فيه متعثرة باجتهاد منه..أما جذور ذلك فترجع إلى أنه كان من البارزين في تنظيم "حديتو" اليساري وكان من أعضاء مكتب الأدباء والفنانين، وله سمة شيوعية. ثم أنه كان الكاتب الوحيد الذي شارك في "مسيرة الأدباء" عندما فجر اليهود الكاتب غسان كنفاني فسار في مظاهرة ومعه: نجيب سرور، يحيى الطاهر عبد الله، عبد الحكيم قاسم، أمل دنقل، عبد المحسن طه بدر.وكلهم ماتوا بما فيهم المشاغب يوسف إدريس.. أليست هذه ملاحظة؟!
يوسف إدريس والدين
وجاء اهتمامه بالدين واضحاً في أدبه في قصة "داود" وقصة "أم الدنيا" وقصة "أقتلها"، ولكنه كان اهتماماً من خلال قضية اجتماعية ومن خلال أعماق مسکونة بالمرأة؛ فالأسطى شرف الطباخ في "أم الدنيا": رغم سفره وغيابه الطويل لا يقع في الخطيئة منتظراً زوجته، ركب الباخرة، بعد أن قضى في بلاد الناس شهوراً طويلة عانى في أثناءها ما عانى من الحنين إلى امرأته فردوس كان يقاوم ويضعف أحياناً ولكنه لا يطيق أبداً أن يرتكب الفحشاء ولو بالنظر اشتهائه للمرأة الرومية ذات الأرداف مستعيذاً بالله ومتسائلاً: هل سلطها الشيطان عليه، وأحد الإخوان المسلمين يتحدث لزعيمه عن عشق الشاب الإخواني للسجينة الشيوعية في إطار شيطاني: ألم أقل لك يا مولانا؟ لقد سحرته الشيطانة، ركبته.. ثم يتوجه بحديثه إلى الشاب العاشق: مادامت الشيطانة قد ركبتك،فقد حل دمك أنت، قبل أن يحل دمها، هي أنه ليس قانوناً خاصاً بمجموعة من الأفراد، ولكنه قانون ديني عام ما اجتمع رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما. ورغم أن مؤسسة الزواج،بقواعدها،وقيودها، تتسع للرجل والمرأة معاً، فإن للرجل خصوصية دينية واجتماعية.من الناحية الدينية فإن للرجل حق الزواج بأكثر من واحدة، وعندما يستسلم أبو سيد لعجزه الجنسي يائساً من الشفاء، فإنه يمني نفسه بتعويض هزيمته من خلال ابنه ويقول فى القصة :وحتبقى راجل.. وأجوزك يا سيد.. سيد.. حجوزك واحدة حلوة.. لا..أربعة.. أربعة حلوين عشان خاطرك.. وتبقى راجلهم (من "قصة أبو سيد"). ومن الناحية الاجتماعية، فإن "خطيئة" المرأة تختلف عن"خطأ" الرجل حتى لو كان الفعل واحداً، وهو في العملية الجنسية لا بد أن يكون واحداً،عند العثور على الطفل اللقيط الميت، يفكر أفندي مأمور التفتيش في"فاعلة" الخطيئة، وكأنه يجعل الفاعل يفر من وعيه ومن الواقع المعاش فيسأل الجمع ترى كيف تكون فاعلة ذلك الحرام؟ أو على وجه الدقة، كيف تكون الزانية؟ ما من مرة ذكرت أمامه الكلمة إلا واقشعر بدنه، مع أنه كان له مثلما لمعظم الناس علاقات قبل أن يتزوج وحتى بعد أن تزوج. ولكن كأنما كان يستعيذ أن يوجد نساء في العالم يخطئن مثلما تخطئ النساء معه، وكأنما من أخطأن معه لسن زانيات.الزانيات هن من يخطئن مع غيره "رواية الحرام".ويواصل الرجل تفكيره الذي يميز بين الرجل والمرأة، إلى درجة الفصل التام بينهما من الناحية الجنسية، ولكنه لا يبحث عمن قد يصلح ليكون الأب،هو يبحث عن الأم،فهو مستعد أن يصدق الحرام في النساء، الرجل دوره في الحرام طياري: أما المرأة فدورها أساسي.. هو يبحث عن الأم.. وفي بحثه هذا لم يترك أحداً.وهذا التمييز بين الرجل والمرأة لا ينفي عمومية المشكلة الجنسية، وصدامها مع الدين الذي ينظم العلاقة ولا يسمح بالخروج عن هذا التنظيم... ما الذي يفعله المحرومون والمحرومات جنسياً،ما الذي تفعله الزوجة التي تعاني الحرمان رغم زواجها؟ هل يملك الدين ورجاله إجابة نهائية حاسمة؟سؤال زلزل كياني مرة من شابة..كانت بالقطع شابة..المشكلة تبوح بها في تردد ثم بلا خجل تنطق الزوج كف من شهور عن معاشرتها!!ولافائدة،وإدمانه ميئوس ..ومحاولاتها فشلت ..وتخاف الفتنه..ماذا تفعل"؟"
من قصة: أكان لابد يا لي لي أن تضييء النور.
بل إنه يستخدم أسماء دينية لبعض قصصه مثل قصة "أكبر الكبائر" من مجموعة بيت لحم.بل إنه يجعل البطل هو "الشيخ عد العال" إمام مسجد الشبوكشي في حي الباطنية بطلاً لقصة "أكان لا بد يا لي لي أن تضييء النور" ولي لي هي الشابة الجميلة أعجوبة الحي بجمالها المصري الإنجليزي، وفي القصة هزيمة الخير أمام الشر إذا كان سلاحه الجنس.
يا رب.. مستغيثاً صرخت.. ليست استغاثة أرحني لملأ أعلى، ولا ناطقة بلسان ضعف البشر.. هي استغاثتي أنا.. كنت قد بدأت أغرق.. أواصل النظر لا عن رغبة في المجابهة وتصعيب الامتحان.. وإنما عن عجز أن أكف عن النظر. وليس في انتصار "لي لي" علی شيخ الجامع ما يوحي بهزيمة الدين وإنما هي الفلسفة النهائية للدكتور يوسف إدريس؛ فالدكتور يوسف إدريس الرجل كان يفهم الدين ويفسره بطريقة شديدة الخصوصية، أثارت عليه ثائرة الكثيرين وحواره مع الشيخ شعراوي مشهور قال له في الدين: العقل كالمطية يوصلك للسلطان ولكن لا يدخل بك عليه؟!
فقال له: "يا شيخ عقلي يفتح الديوان!!"
فقال عنه الشيخ شعراوي: "هو رجل في المنطقة الأولى من الإيمان:بين الكفر والتحدي!!"
وقال له يوسف إدريس: "هل عادت صكوك الغفران؟".
لقد كان الرجل عظيماً يعترف بضعفه وضعف الإنسان يا سادة..نحن نتحدث عن يوسف إدريس الذي قابل عمر الشريف فقاله له: "أين أنت يا رجل.. لم نعد نسمع شيئاً عن المرأة معك ماذا حدث.. لا تنسى أني طبيب.. ها ها؟! ااصف لك شىء ينفع؟!"
والذي قال في اجتماع للأدباء مع الأديب الكبير أرثر ميللر: لماذا تزوجت مارلين مونرو؟! وهل هناك تأثير لأدبك في هذا الارتباط؟ أو ما تأثيرها على ما تكتب؟! وانزعج ارثلر ميللر وتدخل انيس منصور لتخفيف الاجواء
ملحوظة: المقال من كتاب صدر حديثا للمؤلف عنوانه "على سور الأزبكية كان لنا أيام"