Header Ads Widget

التناقض الوجودي وما ورائيات النص عند محمود البريكان

 كتبت : صفاء عبد العظيم خلف

التمازج المحتدم بين السيرة وجمالياتها الإبداعية، شكلت مفصلاً مهماً في بنية البريكان الكلية، لذا فأن نتاجه بعيداً عن محاولة فهم عزلته، ليس بالأمر الهين، بسبب الاشكالات المبثوثة في جسد الطرح الشعري، والمسكوتات التي تتمركز في ماورئيات نصه.

   فالدخول إلى عوالمه الخاصة، اجتراح للواقع وجعله إطاراً اميبياً للحالة ومدخلاً للسفر عبر أغوار مبتنيات النتاج الغامض المليء بالتناقضات المخالفة للكينونة والوجود.

   التناقض الوجودي، ارتكاز متوازي على خطين سلوكي وإبداعي، يتمحور في الذات مشكلاً عوالم متداخلة.

وماورائيات النص، مزيج من تقنية صوره (علامات ترقيم/تنقيط) والاحتكام إلى الاشتغال العقلي بتوظيف نظريات علمية لها علاقة وطيدة في ترسيخ ثيمة الحدث وإعطاءه بعداً حقيقياً لمواجهة التحديات العصور التي تتجول فيها (كائناته) الشعرية المهمشة والمغيبة دوماً.

  التناقض الوجودي وماورئيات النص، نجد لها صدى كبيراً في القصيدة الأنموذج. للحيز الكبير الذي تشغله فيها والذي لا يمكن إغفاله لما له من إيحاءات عالية الاستشعار بالذات والمحيط.

1 ـ الومضة القصّية..

  الرصف التمهيدي لتصاعد المشاهد في جسد الطرح الشعري، يمتلك حسية الإشعار بالتوجد (المغيب) في الذاكرة والأرض، ويتفضى: بوابة لافتتاح الحدث بالإخبار المباشر ممهداً لحيثيات تأليف صله بين (المتلقي) و(الكائن) الذي يتحرك في أجواء القصيدة متنقلاً من مفازة إلى أخرى حسب التصاعد الدرامي لتاريخيته.

(لعلك يوماً سمعت عن البدوي العجيب

 الذي كتب الله أن لا يموت وأن لا يرى وجهة أحد).

   امتشاق التصحر الحلم من فيافي الضياع عبر التساؤل الكبير المطروح في مفاصل القصيدة بتنويعاتها خلق رشقاً من مثابات سيولوجية يبحر بها عارضاً تأملاته الغير محدودة المكان، المستفزة في إمكانية قياس الزمن.

(أنا البدوي الغريب.. يجوب البوادي

        ويطوي العصور ويعبر جيلاً فجيلاً إلى أخر الأزمنة).

   إن هذا التنقل ما هو إلا شكل إيقاعي ـ ليس إيقاع موسيقي النظم ـ متراتب يناغم النسيج العضوي في طرح الثيمات، ويمسرح البناء المضموني وصولاً لتركيب الشكل من حيث "أن الجمال الشعري الحقيقي يكمن في امتصاص الشكل الفني لموضوعه أيّ لجوهر الانفعال الإنساني". (محمود البريكان) تصحر الحس وانسداد بؤرة الشعور وانقياد المصير نحو عزلة سلوكية سمة للزمكان الذي عاش فيه ذلك البدوي المقهور.

  هذه العزلة السلوكية.. هي بالأصل نابعة من جوهر حياة البريكان مضفي عليها
(عزله إبداعية) وهي "العزلة الحقيقية التي كان البريكان يجاهد من أجل إنمائها وتعميقها، ليبقى شعره منعزلاً ومختلفاً " (عبد الزهرة زكي).

والعزلة والاختلاف حدد في نطاق هذه القصيدة باستدراكين من قبل قوة عظمى تمتلك هيمنة امتلاك المصائر:

1 ـ كتب الله أن لا يموت.

2 ـ أن لا يرى وجهة أحد.

   الإشكالية الأولى.. تتمخض في تواصلية وهلامية الزمن باعتبار الكائن (شاهداً أبدياً) أما قاصداً العيش في ظل عوالم متداخلة أو قسراً بفعل ضرورة الخلود التي تسكن خبايا في التوق الدائم لأسر الفناء ولاسترسال في الكيان الوجودي للكشف من أوجهه المتعددة.

وتلك رغبة البريكان نفسه.. الذي "أعتاد الدخول في التناقض وأن يجد الكثير من الجمال في وجه الحقيقة" حسب تعبيره.

( حفظت أغاني الزوابع عبر الأفق

وكنت امرئ القيس في التيه والمتنبي

في الطرق النائية وفي عزله الروح

كنت المعري رهين السجون الثلاثة).

   ومن المعروف أن (أبو العلاء المعري) كان رهين محبسين، العمى وعزلته عن المحيط، والبريكان تقمص الشخصية المعرية مضيفاً عليها محبساً ثالث وهو (عزله الروح).. وهذا فيه وجهان:

   الوجه الأول: لم يشأ البريكان استخدام مفردة (محبس) أو (محابس) المقرونة برهين المحبسين، لأنها لا تستنفر لدى المتلقي الطاقة الحسية التي يريدها والتي تفجرها مفردة (سجون) لما لها من وقع نفسي حاد في تشكيل الصورة المأساوية للعزلة و(السجن) لا يمكن فرضه من الداخل أو حتى من الإنسان نفسه ضد نفسه، بل يفرض من قوة الخارج المؤثرة أي أنه أراد أن يصور الأمر على أن العزلة التي أوجدها(هو) والمعري كانت لضغوط خارجية مورست ضدهما بشكل غير (مباشر) أو مباشر.

  الوجه الثاني: أن البريكان يرى أن الحياة هي موت لاشعوري للروح بتقزيمها بقالب لا يحتويها خالقاً "فجوه بين الروح والقالب، هذه الفجوة هي التي تتحرك وتجوس وتتمحور حولها حياته بذلك تبقى الروح على ضفة انتظار الانعتاق نحو مجالها الحيوي المفروض أن تكون فيه وبين القالب المموه الذي وضعت فيه. وهو بذلك يؤسس خطاً فكرياً (غرائبياً) يلغي فيه حتمية الكينونة والوجود، في أن الحياة ما هي إلا موت ضروري واضطراري لتمارس فيه الروح فعالياتها التشذيبية والتقويمية وصولاً إلى الكمال الذي لا يتم إلا من خلال الخروج من زنزانة الجسد (عزلة الروح) لتحيا في رحابة الكون الفسيح مزهوة بالفضاء المطلق.

(هذا الرميم متى يتحرك؟

هذه العروق متى تتدفق بالدم؟

هذه اليد لذابلة متى تتحرر من موتها؟).

الإشكالية الثانية.. الاعتكاف كان أحد حياته المغلقة، التقدير الأول جاء محمولا في ثنايا القصيدة وهو تقدير (نصي) في الوجه الذي غضنته المهلك وشوهت تضاريسه الحروب ورسمت على أرجائه السقطات المتوالية علاماتها:

( وجهه الأول المستدير البريء

الذي غضنته المهالك وافترسته الحروب

وخطت عليه علاماتها).

جدلاً، هناك وجهة أول فانه بالضرورة وجود وجوه أخرى.. نمت طبقات تراكمات لا حاث عليها، فغيبها فاصبح ذا وجه أميبي يتلون ويشكل على حسب تغير المحيط بإرهاصاته، باعتباره (شاهداً أبدياً):

( نمت طبقات الزمان

على جلده. فهو لا يتذكر صورته

صورة البدء).

وهندسة الوجه طبقات (المستدير البريء) لا يمكن تغييرها، لكن من الطبيعي جداً أن يتلون الإنسان ويستجير به كي لا يكشف عن براءته:

( وراء قناعي القديم / بصيص براءه)

التي لا يمكن العيش بها في دائرة موحشة فيلتهم..

أنا في عالم يتفجر حولي بإيقاعه المتوحش).

أما التقدير الثاني.. الانزواء عن الفعل الاستعراضي اليومي الذي قد يسبب له هدم مبنياته المثالية ويحيلها هامشاً تختزنه الذاكرة، وقد يصيبه النسيان والاستغراق بالملهيات اليومية وفضاضة الانغماس فيها، قد تسبب له صدمة نفسية على صعيد أخلاقي تؤدي به الخروج من كيانه الذي أسسه على المثالية والرقي المعرفي والفكري، ولكن مع ذلك بقي يتصل بالحياة عبر قنوات رفيعة تضمن له وصول رؤية الخارج دون خدش لمخيلته، وهذا مبنى على أساس التعامل مع البريكان أنساناً ومن ثم ذلك التشابه الغريب مع البدوي في قصيدته.

 

2 ـ المفازة الأولى..

(أنا هو ذلك… على الموت تسقط ذاكرتي في الظلام)

  لا يمكن أن نطلق عليها بأنها استرجاع للذاكرة المغيبة حيث تأسيساتها على استعراض تاريخية البدوي مدخلاً لتركيز (الفادي الطليق) المأسور و(البطل المنقذ) المهزوم، في زوايا توثيق الحالة بشيء من الشجن والتأسف…

  ومن الملاحظ أن الشاعر عمد إلى تركيز ضمير (الأنا) تتكرر ثمان مرات في سياق التركيبة الشعرية.

ويمكن أن نحدد وظائفها: ـ

1 ـ التكرار جاء مبنياً وفق احتواء العمق لـ (الفعل / الصورة) من حيث أن كل أنا جديدة تعني بداية الشروع بتوظيف جديد ومغاير.

2 ـ (الأنا) الأولى جاءت بعد عملية الومضة القصية (لعلك يوما..) والتي بعدها يستقرئ هيكليته العامة.. تأتي (الأنا) لتفاجئ الملتقى بأن الشاعر (هو ذاك) وبذلك يتحول النص إلى منلوج داخلي يبدأ الشاعر ليبث ثيماته في التكوين.

3 ـ أربعة تكرارات لـ (الأنا).. جاءت مقرونة بمفردة (البدوي).. وأولها جاءت مفردة (الغريب) مضافة إليها.. وهذا التخصص جاء كتمييز عن التكرارات الأخرى من جهة لوجود مد طوبوغرافي له علاقة بالبداوة حضارية لها تقليعاتها.

4 ـ ثلاث تكرارت لـ (اللأنا).. جاءت تحمل مفاهيم جديدة (الفارس والضيف/الزائر/الشاهد الأبدي) وتنقل صوراً تعبر عن حدود زمانية ومحددات مكانية.

*   *   *

تنتهي المفازة الأولى بإشكالية متداخلة الأبعاد وهي..

( أنا الشاهد الأبدي

على الموت تسقط ذاكرتي في الظلام)

هناك توافق في التركيبة الجملية:

على موت ــــــــ في الظلام

جار ومجرور معرفة ــــــــ جار ومجرور معرفة

  عملية موازنة يقابلها توافق في التكنيك الإبداعي من حيث.. أن فعل (الموت) يعني انفصال الإنسان عن الحياة المادية بكل الجوارح ومنها الحسيه كـ (العين) التي تقوم بفعلها البصري من خلال انعكاس الضوء فيها، وسقوطها في الظلام، يعني انعدام الرؤية وبذلك التامة وبذلك تنتفي الحاجة لها عملياً ومن باب أخر.. أن فعل الذاكرة يتوقف عمليات التصوير والمونتاج داخل العقل. وإخضاع الذاكرة للفراغ الموحش.

وهناك أيضاً توافقاً مادياً أخر وهو:

الذاكرة ـــــــ الشاهد الأبدي

بما أن الكائن كان مبثوثاً في الأحداث المكانية والزمانية.. فحصيلة الخروج فيها هو الذاكرة.. ومن هذا نستخلص أن (فعل السقوط) هو الإسفين الغريب في التركيبة الشعرية وحياله قلق وهذا سنبنيه:

1 ـ ليس الموت هو الذي ينقض على الذاكرة، بل هي الذاكرة تنقض على الموت. دون الوعي الكامل منها في احتمالات عرضية..

أ ـ أن الذاكرة بتحررها من غلاله الجسد بفعل الموت لتمارس فعالياتها في رحابة الكون الفسيح مزهوة بالفضاء المطلق:

ب ـ أو تفاجئ بالعكس لتجد أن الموت نفسه تواطؤ مع قوى الظلام ليرزح هو ونفسه والذاكرة تحت وطأتها.

2 ـ فعل السقوط قسري وعنيف في إخضاع الذاكرة للسكوت. فكان سقوطاً حراً للشاهد والذاكرة والموت بفعل حرف الجر (على) الموحي بالسقوط من الأعلى نحو الهاوية والاستقرار فيها مأوى نهائياً بفعل حرف الجر (في).

وبذلك أصبح (الموت) ليس المرحلة النهائية أو المحطة الأخيرة بل نقطة عبور فوجدت الذاكرة نفسها مستمرة في السقوط نحو الظلام.

1 ـ فعل الظلام: حتمي ومجحف في الاستغناء عن الذاكرة والانزواء عن الحركة في خضم الوضع الجديد، كذلك أن الظلام يمثل المحطة النهائية وقاعدة الثبات الأخير، حيث أن الموت بإمكانه أن يكون القاعدة الأخيرة إلا انه جاء كمرحلة ممهدة بين فضائين (الحياة / الظلام) فاصبح ممر وقناة العبور للمصب الأخير.

 

3  ـ المفازة الثانية.. رجع الذاكرة القريب

(أقمت على صخرة الروح مملكتي …) ـــــ (كنت أملك هذا اللسان ولا أتذكر شيئاً)

 التلاحق المبتكر لانحناءات الوفق ضمن فضاء النصف من اللوحة القصيدة، مارس تمازج نصيناً / سلوكياً مع تكوينات المفازة الأولى.. وهذه المفازة مبنياتها تعبئ الكائن المتحرك في وفقها لاشعورياً بالإفرازات والتقنيات التي احتوتها في المفازة الأولى..

  النسق الخطابي تعدلت لغته من الاعتراف إلى الإثبات ـ المواصلة.. وهذا التغيير جاء نتيجة تبدلات هائلة في المحيط، أثرت على نفسيته وجعلته ينقاد لفعل ميكافيلي مفرطاً بقيمة الأخلاقية وينسي ضرورته وبحال وجودة إلى التهميش كواحد من الذي يزجون في السلطة وألاعيبها دون الإدراك لشخصيته وارثه الواعي.

كذلك أن هذه المفازة هي استكمال أو بفارق غير كبير زمنياً، لكن التغيير الحاصل كان على صعيد الفضاء العام وصعيد اللغة:

صعيد الفضاء العام

  ففي المفازة، الأولى كان الفضاء العام مميزاً بروحيته الإنسانية ذات الهموم المشتركة المطلقة في التعايش السلمي والبقاء (قصداً أو قسراً) خارج نص السياسة، وبقاءه متفرجاً محايداً تأثر ولم ينجرف في التيار. وهنا اختل الفضاء من:

1 ـ روحية الفضاء العام:

اختلفت روحية الفضاء العام، بان أصبح جوها مشبعاً بالسياسة وألاعيبها وسقطاتها مما أثر بشكل كبير على الخطاب المروي من حيث التعامل السيمولوجي مع الأحداث التاريخية وبشكل غامض ومبهم، لكنه مكشوف بالقراءة المعمقة وتتبع الترتيب النسقي للقصيدة في جزءها هذا.

2 ـ الانقلاب الأيديولوجي:

بعدما كان شاهداً متفرجاً حيادياً في المفازة الأولى.. رفض أن يلعب نفس الدور المستعبد، فقرر التحول من المسار الاجتماعي الهادئ إلى المسار السياسي المضطرب.. عله يفلح في تمكين قدرته على النهوض بواقعة وتحقيق تطلعاته المبهمة (التي لم يعلن عنها على طول القصيدة) والمباشرة بالانقلاب الأيديولوجي، بناء على موروثة الروحي الاجتماعي الهادئ

( أقمت على صخرة الروح مملكتي)

وهذا البنيان يفتقر إلى الخبرة والتمرس ويحتاج إلى ألاعيب وخدع السياسة التي يمكنها أن تبقيه صامداً، إلا انه وبحكم طبيعته الإنسانية سقط في فخ الثقة الكاملة بالمحيط..

( استبعدت روحي الطيبات

إلى أن تفتت لحمي).

  وانتهت مسيرته السياسية القصيرة كـ (بطل منقذ) و( فادي طليق) ليتحول إلى مغيب مهمش تحت وطأت السلطة الغاشمة التي تتلاعب به وتنتهك إنسانيته وتضع من قدره. كعذاب يومي في الصحوة والمنام.. التي تمسخه شيئاً على القارعة.

( رأيت كلاب الملوك

تطاردني في المنام

رأيت الرجال يخدمون كلاب السلاطين

ـ أو يضحكون الطواشية المتخمين

وقوفاً وراء الموائد ـ

وكالببغاء التي هرمت

كنت املك هذا اللسان

ولا أتذكر شيئاً).

*   *   *

تقنيـــة اللغــة..

اعتمد أسلوب الخطاب في المفازة الأولى على ضمير الفاعل المنفصل (أنا).. لتوكيد الشخصية ـ كما بينا ـ كضرورة قصوى لاحتواء الحدث والسيطرة على مقوماته، أما في المفازة الثانية، جاء الأسلوب مغايراً حيث اعتمد الشاعر على الضمير المتصل المعبر عن الفاعل (التاء) الداخلة على الأفعال الماضية (أقمت / بدأت / تلاشت / نسيت / دخلت / بايعت / خضعت / ما عدت / رأيت)، فاصبح التركيز على الفعل بحد ذاته وتأثيثه لبنة تعنى بالبناء الصوري / الحدث.. بسبب التداخل التاريخي والتنقل الزمني السريع.. وهذه الأفعال الماضية التي شكلت خطاً جمالياً ضمن سياق الجملة الشعرية، تحمل بعداً زمنياً وجمالياً حيث إنها تتمتع بروحية الحاضر، وشمولية النظرة التاريخية ومستقبلية التواتر على النهج نفسه.

*    *    *

   تعتبر ظاهرة علامات الترقيم والتنقيط واحدة من سمات الحداثة في الإبداع، لما لها من مدلولات تغني العمل فنياً وتقدم له إيحاءات بصرية وخاصة إذا وظفت في الملفوظ الشعري..(واستثمارها لوصل الملفوظ ببعضه من جهة وبالمغيب أو المسكوت عنه خارج النص من جهة أخرى) حاتم الصكر، (أقاويل الجملة الشعرية، ملحق المنارة الثقافي الأول الخاص الشاعر محمود البريكان 29/شباط / 2004.

  وبذلك نفتح فضاءاً رحباً يمارس فيه المتلقي حريته في إعادة أنتجت النص أو الصورة حسب رؤيته الخاصة.. مؤسساً جسراً إبداعياً/جمالياً بين تقنيات النص/مسكوتات الشاعر/خيال المتلقي..

يعتمد البريكان على مثل هذه التقنيات البصرية داخل النص في اغلب أعماله ـ إن لم تكن كلهاـ لتكوين روابط عضوية داخل الطرح الشعري.

  وهذه المفازة تنتهي بسطرين من (التنقيط المتواصل) لدلالة على استمرارية الحدث.. وان هنالك مسكوت عنه (مبهم) و(منطوق به) سابق يتوالى لتكملة الصورة.. لكن المتلقي قد يسيء فهم هذه التقنية ويعتبرها فاصلة/نهاية لكن المتتبع إنتاج البريكان الشعري (المنشور) يلاحظ أن البريكان عندما يريد الانتقال من (الحدث / صورة) إلى آخر فانه يستخدم تقنية ثلاث نقاط كبيرة (* * *) أما هنا فالقصد مغاير وبذلك نتوصل إلى أن البريكان أراد أن يمزج الإشكالية الأخيرة من المفازة الأولى (أنا الشاهد الأبدي... في الظلام) بعد انتهاء المفازة الثانية مستعيضاً عن ذلك بسطرين من النقاط المتواصلة.. وقد رأينا في ذلك:

1ـ كنت املك هذا اللسان ولا أتذكر شيئاً

على الموت تسقط ذاكرتي في الظلام

2ـ أنا الشاهد الأبدي

كنت املك هذا اللسان

على الموت تسقط ذاكرتي في الظلام

ولا أتذكر شيئاً

3ـ كنت املك هذا اللسان

على الموت تسقط ذاكرتي في الظلام

أنا الشاهد الأبدي.

[ads2]

(4) المفازة الثالثة

    (تخاطبني الريح... متى يا الهي؟ متى)

  تشتغل المفازة الثالثة على التكنيك العلمي لظواهر والإمكانات الحالية، كمسلمات طبيعية الدالة على تبدل النظرة الحسية للأشياء، والابتداع المستمر في السيطرة. لتكون على قسمين أولهما ما ذكرنا والثاني هو الحركة الروحة المقبلة..

   (تخاطبني الريح افتح عيني)

   إن الإيحاء في الجملة الشعرية يصل بالمتلقي لحدود (المكان) الذي بقي مهمشاً على طول المفازتين. بسبب أن المكان لا يمثل فتحاً في حدود الصورة أما الآن فان المكان يمثل فتحاً لابد منه في حدود الصورة/ الثيمة. أن الريح بالفعل المحسوس والموروث عندما تجوب الأرض المفتوحة، فإنها تصدر أصوات تشبه (الموسيقى البدائية). أو صوت بشري مضخم كـ (الهمهمة) أو بعض المقاطع الصوتية كالفونيمات الإيحائية المستعملة في اللهجات المحلية، وهذا الإيحاء قدرة الكائن على انه محاولة للسفر عبر الزمن والانتقال الماضي حيث بالإمكان النظر بهذه الإشكالية على ـ أساس ظاهرة الانتشار ـ (Diffysion المعروفة في الفيزياء. من حيث التعامل مع المائع،(هي ذات الحالة في هبوب الرياح من منطقة الضغط العالي إلى منطقة الضغط الواطئ، والانجازات الفكرية والإبداعية تكون في العادة مشحونة بالطاقة والقابلية على إحداث حركة ونشاط معين (إنها مثل المائع الكثيف) وفي حالة تراكمها في موقع (مكان) محدد فإنها ستقوم انتقالات مكانية من منطقة النشاط الإبداعي الكبير إلى المنطقة الخالية في فترات زمنية متقاربة "بعض الشيء" وهي الظاهرة نفسها يمكن حدوثها عبر الزمن) د. محمد عز الدين الصندوق، كيف نخلص المستقبل من الماضي؟ ج الزمان، 1736، في 19 من شباط 2004..

ومن ذلك نستنتج:

1ـ تحديد المكان وهو (الصحراء).

2ـ الأفق المفتوح، والانبساط المترامي، جعل المخيلة تشتغل سينمائياً وتعيد أنتجت الأحداث بالصورة التي ظهرت عليها القصيدة من ومضة قصية ورجع ذاكرة بعيد ورجع الذاكرة القريب. وصولاً لحالة الانفكاك من الطقس الفيزيولوجي..  (هل كان ذلك حلماً بعمق الزمان ؟)

  من حيث الانفصال عن مجاراة الواقع (الحاضر) والتقوقع في دائرة (الماضي).. كفعل يومي له تقاليده ومقاييسه التي لا تحترم الزمن الفعلي المعاش في الحركة من حيث (البناء العمري، التقدم المعرفي).

أو في عود على المكان فان هلامية البنية وبسبب أبعاده الثلاث التوافقية سمحت بحرية الحركة إزاء جمود الزمن في البعد الواحد، لذا فان الكائن (حدد الصحراء) وجعلها منطلقاً مركزياً ونقطة ثبات جوهرية في الانتقال والعودة.

   بالرغم من التهميش المقصود للمكان. فانه كان موحداً في جميع فضاءات المفازتين والتي تتفرع منها فضاءات داخلية:

(القصور / السجون / المضارب / الموائد)

(الخيمة / الغرف / المسجد)

  والعودة.. كانت مرة أخرى في الصحراء. في مفتح المفازة الثالثة.. فتصبح فضاءاً جامعاً ومدخلاً لفضاءات داخلية..

(طاحونة بقوى الظلام / مكاتب هندسة الموت / المدن اللاهية).

(مفاعلات نووية / مختبرات الأسلحة الذرية / دوار العولمة).

   ومن الملاحظ أن فضاءات الحاضر تختلف جذرياً من البناء الفكري والمبنيات الشكلية عن الماضي.. لكن مسببات الحدث واحدة والاستبداد بطبائعه واحدة. وان التوطين للإرث والذاكرة والانتقال للتأسي بالماضي ومحاولة تهميش الحاضر والمسارعة بحلول المستقبل، تخلصاً من الفشل والانتكاسات والقيود القسرية أمر طبيعي جداً في المجتمعات الممتلكة لخلفيات ميثولوجية ناضجة فتتحكم لمثل هذه الظاهرة في هيكلية الحاضر على تشكيلة الماضي أي ما يعني (الحنين إلى الماضي PAST SICKNESS).

أفتح عيني:

هل كان ذلك حلماً بعمق الزمان؟

وهل احلم الآن؟..

  الحلم يتوزع على مكمنين: الأول/الحلم الحكواتي: (بعمق الزمان) من حيث أن الظروف والنكوص الدائم هو سمة نشاط آلامه فخلفت عقدة متأصلة فيها باشرت عملها عبر الأجيال وصولاً للحاضر وقد تتواصل لتبلغ المستقبل.

    الثاني/الحلم التوافقي: عندما اغمض عينيه (افتح عيني ـ سبقه فعل الإغماض بالضرورة). راح نسيج الذاكرة يعيد بناء احداثياته. بشكل مغاير.. في الغوص بمكنونات الماضي والاشتغال فيها لتغيير النسق التاريخي ليلد الحاضر بشكل عفوي جديد معافى إلا أن المشكلة الكبرى.. إن الكائن وجد نفسه يعيد نفس الكرة مجسداً انثيالاته السابقة ملتصقاً فيها وهذا ما يعبر عنه بالأفعال الماضية ذات روحية الحاضر، المفتتح بها كل حدث جديد ومغاير في المفازة الثانية.. حيث أن الفاعل مستتراً تقديره (الأنا) التي عدت لولباً للحركة في المفازة الأولى.

وبذلك تفشل الحركية المكانية والظرفية الزمانية في تعديل موازين الماضي والحاضر، وهذا يهيئ إلى الحركة الثانية هذه المفازة وهي الحركة الروحية:

(سأجمع أجزاء روحي وابحث ثانية عن مكاني واسمي ومسقط رأسي)

والفضاء الجديد للتحرك هو الانتقال الروحي الذي بالضرورة الانفصال عن 1ـ القالب الجسدي

2ـ المعيار المكاني

3ـ الإرث الزماني

  وبذلك يكون وعاءاً طبيعياً للحركة الحرة والاشتغال الغير قياسي/المفتوح، لابتكار الوجه المستقبلي الجديد.

 

4ـ  ثريا النص .. (البدوي الذي لم وجهه أحد)

   ثريا النص، إشكالية بحد ذاتها لما تثيره من أسئلة تتجاوز حدود المألوف لتدخل في حيز الغيب والإبهام، لتشكل مع بقية الاشكالات المتلاغزة على طول القصيدة ناقوسا يدق في إيقاع القصيدة.. كأرضية حانية لكل متشعب.

والسؤال المثير: لماذا جاءت ثريا النص على هذه الشاكلة (البدوي الذي لم ير وجهه أحد)؟ أي وبتعبير آخر لماذا لم تأتي على هاتين الشاكلتين:

1ـ البدوي الذي كتب الله أن لا يموت..

2ـ البدوي الذي لن ير وجهه أحد..

   الشاكلة الأولى: لو جعلها البريكان ثريا لنصه لأحد تضارباً كبيراً في ثنايا أطروحته وبذلك يخرج عملاً يحمل الكثير من المجانيات الحديثة ويتنقص الكثير من قيمته. مثلما توصلنا من قبل.. إن البريكان له نظرة تتناقض مع المسار الكوني الوجودي في أن الموت ما هو إلا الحياة الحقيقة للروح حيث تمارس كامل إنسانيتها وصولاً إلى الكمال المطلق في التوحد مع جوهر الكوني .. وتخليده في الحياة (أن لا يموت) يعني التخلي عن الثيمة المركزية في العمل.. لكن قد يتساءل المتلقي بان هذه الثيمة طرحت في سياق القصيدة وكواحدة من مميزات الاختلاف و أحد عناصر التركيب الشخصوية.. لو نظرنا لتشكيل الومضة القصية (لعلك يوماً سمعت) انقطاع استمرار الفعل وتوقفه عند حدود زمنية سابقة، وبذلك يكون أن البدوي قد انتهت ضرورته المادية (الحياة) وظلت ضرورته التاريخية متواترة كحدث موروث.

   الشاكلة الثانية: الحرف (لن) حرف جزم نفي نهائي قاطع، لا يتلاءم مع التغيرات الكبيرة الحاصلة في أجواء القصيدة منها (الفارس والضيف) اللذان من المهم جداً معرفة وجوهما لإقامة صلة اجتماعية بينهم وبين المجتمع وكما أشرنا أن المفازة الأولى كانت تتمتع بجو اجتماعي هادئ. وبذلك يتعرض النص لخطر فقدان المصداقية، والحط من قيمة المعالجة والتشخيص.