أحيانا تعتريني رغبة جامحة للكتابة عن الرجل، ليس لتصويب سهاه التجريح أو القدح إلى صدره "ما عاذ الله" ، أو لنشر غسيله، ولا لتشريح سيكلوجيته ، فهذا أمر موكول لذوي الاختصاص، ولا لتوجيه الاتهامات أوإلقاء اللوم والعتاب عليه فيما عاشته المرأة من سنوات الصمت والاستعباد العجاف- فهذا النوع من الكتابات نتوقعه ونحدسه كلما همت المرأة بالكتابة عن الرجل-بل فقط لإلقاء حجر المساءلة في بحيرة الصمت الراكدة منذ زمان، وكذا إطلاق العنان للعقل النقدي والإفراج عنه من قمقم الزمن، والكشف عن كثير من الأوهام والأشباح القابعة في الذهنية العربية الذكورية والتي غطتها الكثير من العناكب.
فأنا أصلا لست من هواة شن الحروب العلنية على الرجل، ولاتستهويني لعبة الخوض في هذا الصراع الأزلي بين المرأة والرجل، بل من أنصار مساءلة الذات كيفما كانت، ذكورية أو نسائية، فكل مساءلة أو نقد ذاتي هو طريق نحو التحرر والانفلات من أغلال كل فكر عقيم، منغلق و متحجر، لهذا يبدو من المفروض بين الفينة والأخرى استدراج ذواتنا لكرسي المواجهة، بدل "اللف والدوران" حول مكامن الداء أو الخلل، أو بعبارة أخرى بدل الهروب من مواجهة مرآة الحقيقة.
والرجل العربي ظل في صراع دائم بين ماهو كائن وبين ما يأمل أن يكونه، ظل مشدودا للماضي، للمقدس، للموروث، لمعتقدات اضمحلت، لكنها ظلت حية معافاة في نفسه، ظل مكبلا بأغلال تربية أسرية صارمة وتقليدية، وفي نفس الآن انتابته وتنتابه نوبات التغيير، والاندماج في عالم متغير، فظل يعيش هذا الصراع الخفي بألم وارتباك وتردد، ولايدري ما السبيل للانفلات من شرنقته، وانعكس هذا الصراع جليا في شخصيته التي أصابها حالة من الفصام، وبالفعل تظل المرأة الكائن الهش الأقدر على استيعاب هذا الصراع، حتى تستقيم معادلة قوي ضعيف، ليغدو جسد المرأة مسرحا لحالات الازدواجية التي يعيشها الرجل العربي، فتراه يكره غباءها وبلادتها، لكنه في الآن نفسه يخاف ذكاءها وتفوقها، يخشى أن يقلل هذا النجاح من نفوذه ويجعل المرأة تتلذذ بانتصار لم تعتده، وتبذل قصارى جهدها للحفاظ عليه، لأن الرجل كما يقول نيتشه" اعتاد الانتصار، أما المرأة فالانتصار لديها استثناء"، وتراه يفتخر بالمرأة المثقفة الكاتبة المبدعة...، لكنه يكره أن يكون تثقفها سببا لاعتدادها بنفسها وتخليها عن دورها التقليدي كأم وزوجة مطيعة، يحب الرجل العربي المرأة الشريفة العفيفة الطاهرة، سواء كانت أخته أو زوجته، و"يفور دمه" حين يرى أن شرفه يلحقه الأذى، وينادي بإراقة الدم على هذا الشرف الرفيع، لكنه لايتردد في اتخاد عشيقة أو خليلة، مبررا فعلته بحاجته إلى حنان يفتقده عند أم الأولاد، يقدس الرجل العربي أمه، يحترم أخته، يعشق زوجته، لكنه يستبيح في الآن نفسه، جسد المرأة والتي غالبا ما تكون زوجته أو أخته لممارسة كل أنواع العنف..، يمارس الرجل عنجهيته وتسلطه في البيت ويلبس ثوب الجدة والرهبة أمام الأولاد، لكن ما أن يتخطى عتبة البيت، حتى يتحول إلى "جنتلمان" في حالة من الوداعة والرقي والمرح، يلعن بعض الأنظمة العربية المتسلطة، ويستشيط غضبا كلما لاح له أحد حكامنا العرب في الصندوق السحري، لينعته بالديكتاتور، لكنه يفتقد للديمقراطية في أسرته وبين أبنائه ولا يمارسها كأسلوب حياة، يتذمر من بعض القنوات المبتذلة، ويكره الأغاني الهابطة، لكنه لايتردد في التلصص بنشوة واستلذاذ على هيفاء ونانسي كلما أتيحت له الفرصة، يتغنى بأمجاد الماضي، ويبكي حضارة غابرة، لكنه لايكف عن التطبيل والتهليل لحداثة وعولمة مستوحشة، يكتب المثقف العربي ويدافع عن كل القيم المتحررة، لكن أحيانا قد يكون الشيطان ثالثه وهو يدفع ثمن الخادمة، يعشق الرجل العربي المرأة الجميلة الفاتنة، لكن يكره أن تكون مثيرة للآخر، لهذا عليها كما يقول نيتشه" في تسع وتسعين حالة من الحالات التي قد تعجب الآخرين، أن تزدري ذلك، وتمتنع عنه بغية تخزين محصولها نهائيا، وهو إغواء الرجل الذي تسع رحابته وروحه لذلك العطاء الكبير".
يحب الرجل المرأة المثيرة، المثقفة، الذكية، الشريفة، المتعلمة، لكن يجب أن تحوم كل هاته الصفات حول "سي السيد"، وتخدم رجولته، وتضفي لمسة من النعومة على فحولته، وأي تمرد أو خروج من دائرة الرجل، فهو جهالة، ضلالة، ابتذال ... عصيان، ليصب جام غضبه على قاسم أمين، وكل من ساهم من قريب أو بعيد في جعل المرأة تحيد عن صراط الطاعة غير المستقيم.
وفي هذا الكرنفال اليومي، أو"السهرة التنكرية للموتى" وهو عنوان رواية للمبدعة العربية "غادة السمان"، التي"تهوى تمزيق الأقنعة عن الأرواح في السهرات التنكرية للموتى" كما صرحت في أحدى حواراتها للقدس العربي، أقول في هذا الكرنفال ، يستعين الرجل العربي بالعديد من الأقنعة المرصوصة في دولابه، قناع التحضر، قناع الحداثة، قناع الرقي، قناع الثقافة، قناع الوداعة، قناع التحرر، قناع الديمقراطية، ...أما قناع الرجل التقليدي ذو النزعة الاستبدادية والمتسلطة، فلا يضعه إلا حين يختلي بنفسه، أو بالمرأة الجاهزة لاحتواء كل أنواع الازدواجية، ب"صدر رحب طبعا"، فأمامها فقط يكشف عن كل أوراقه، ليقع في الفخ، ويبرر ازدواجيته ويعلق فصاميته على شجرة المجتمع الذي ينعته بعدم النضج وعدم القدرة على استيعاب تحضره وتحرره، بينما المشكلة ليست في المجتمع طبعا، بل في شخصيته وتفكيره الذي لم يتمكن بعد من الانفصال عن الماضي، واستنشاق هواء الحاضر بكل رحابة صدر وفكر، والمشكلة كذلك في تربية أسرية لم تسع إلى مجاراة الحاضر بكل متغيراته، فأقول ختاما ما قاله علي ابن أبي طالب رضي الله عنه:" ربوا أولادكم غير تربيتكم، لأنهم سيعيشون زمانا غير زمانكم".
شاعرة وكاتبة من المغرب
خاص كيكا