انشأت أول مدونة لي منذ سنوات ، كنت في الخامسة عشرة، كانت بداية اتصالي باللغة والقراءة اتصالا حقيقياً، بعيدا عن المدرسة، وكنت أكتب فيها بالعربية في الغالب.. كنت اقرأ مدونات أهل الثورة، وكانوا يكتبون بالعربية، وكان أصدقائي على تويتر يكتبون بالعربية، كانت حاضرة في حياتي اليومية، وكانت تشبع رغبتي في تجميل الكلم، فكتبت بها.
ظللت لفترة طويلة أريد أن أكتب كلما جميلا شاعرياً، كعرض من أعراض الانبهار بطه حسين ونجيب محفوظ والشعراء المتقدمين.. نجحت في ذلك أحيانا، لكنها كانت مرحلة طفولية، أنقطعت بعدها عن الكتابة لفترة طويلة، لأنني كنت أظن أن الكتابة إنما خلقت لهؤلاء المثقفين الذين قرأوا مئات الكتب أو سافروا حول العالم، بحيث أصبح لديهم ما يضيفونه لمعلومات
القارئ، أو الذين يستطيعون كتابة القصص، أو الشعر، وأنا لم أكن ولست أياً من هؤلاء.
منذ أكثر من عام بقليل أنشأت مدونة جديدة.. اكتشفت بعد عام من الكتابة فيها أنها أصبحت مدونة إنجليزية، لم أكتب بالعربية فيها سوى مرتين أو ثلاثة، وأن مفكرتي الورقية أصبحت إنجليزية كذلك.. حدث هذا بشكل تلقائي، لم أر فيه غريبا، إلى حين أردت أن أكتب بالعربية مرة أخرى، فأحسست إحساس من يعود لهواية قديمة كان قد أقلع عنها.
عدت للكتابة، وجدت سببا لكي أكتب.. أنتهت تلك المرحلة الطفولية.. مرحلة الانبهار باللغة إلى مرحلة الصدق.. أكتب بحثاً عن الصدق، مع نفسي قبل كل أحد.. يجب أن أجد صوتي إذن.. الصوت الذي يتكلم في رأسي حين أكتب، يجب ألا يكون مصطنعا ولا متفلسفاً ولا متجملا، يجب أن يكون أشبه بصوتي منه بصوت منبعث من مذيع نشرة الأخبار أو واعظ على إذاعة القرآن الكريم.. يجب أن يكون صوتي، لا صوت الضمير ولا الأخلاق، ولا المنطق.. لا يهم إن كان لامنطقياً أولا أخلاقيا، إن كان صادقاً فلابد أن أسمعه وأواجهه، فلا بأس إذن إن كان بأي لغة، مادام صادقاً.
احتجت إلى أن أعبر عن مشاعري وخواطري الخام أولا، دون الحاجة إلى المجازات والتشبيهات التي تخنقها.. أحتجت لأن أقول ما مفاده أني حزينة أو غاضبة أو سعيدة، دون الحاجة لاستدعاء تشبيه بعيد يستهلك طاقتي في صياغته.. ربما لهذا لم أكتب بالعربية، لم أكن أجيد هذا بالإنجليزية، فبينما كانت العربية أرضا خصبة لتلك المجازات والجماليات، كانت الإنجليزية
بالنسبة لي لغة صديقة للتفكير، صديقة للصدق وللتعبير المباشر عن الأفكار والمشاعر الخام، وكان صوتي بالفصحى يبدو لي متحذلقا مجودا أكثر مما أنا عليه بطبيعتي.. استطعت أن أصل إلى درجة من الحماقة تشبهني بالإنجليزية ، بينما بالعربية، كنت لا أزال حكيمة أكثر مما يجب.
أحب اللغة، تعجبني فكرة أن نتفق سويا على أن نعطي أسماء لأشياء، لكي نمسكها بيدينا ونشير إليها ونقيسها، وهي ربما مجردة لا تقبل القياس. تعجبني أيضاً أن هناك مجموعة أخرى من الناس، اتفقوا اتفاقا ضمنيا أن يمسكوا بمجموعة أخرى من الأشياء لم نفكر فيها نحن، فأعطوها اسما.
ما مرادف awkward في العربية؟ وما المرادف الإنجليزي لشجن أو صبابة؟ يمكننا أن نتجادل حول بعض الكلمات، لكن شيئا سيفقد في الترجمة لا محالة.
في فيلم Eat, Pray, Love يخبر العجوز الإيطالي جوليا روبرتس أنها يجب ألا تتعلم الإيطالية فحسب، بل أن تتعلم نبرة الصوت وحركات اليد المصاحبة للغة أيضاً.. منذ بعض الوقت وهذا المعنى مألوف بشكل غامض وبعيد بالنسبة لي.. هذا العام، تأكدت منه بالتجربة ولمسته بيدي.
اللغات أكثر من مجرد كلمات يتم نقلها بشكل ميكانيكي من لغة لأخرى. هناك دائماً شئ يفقد في الترجمة.. التنقل بين اللغات أعقد مما يبدو.. عندما أكتب أو اتحدث بلغة، فيحدث أنني اتبنى الـ mindset الخاض بها لإراديا، و mindset اللغة الإنجليزية كان مريحا في التفكير إلى حد بعيد. الإنجليزية لغة صديقة للتفكير كما قلت.. كثيرة الفواصل، علمات الترقيم بها لها قواعد محددة.. العربية كانت دائما سائلة، لا أعرف ما أصنع بكل هذه الحرية، أفقد شعوري بالتحكم، هناك دائما فرصة لجملة طويلة متشابكة جميلة جدا، لكنها بالغة التجرد ولا تنفذ إلى بيت القصيد.
ثم إنك تصل إلى درجة من الاتصال بلغة ما، قد لا تؤهلك لنيل الدكتوراه فيها، لكنها تكسبك بدرجة ما صفة من صفات المتحدث الأصلي: تتعلم بالتجربة، بالاحتكاك المباشر، بل لا حاجة دائمة للغتك الأم كوسيلة للتعلم. لدي من هذا القبيل عشرات المصطلحات الإنجليزية التي تعبر عن معان لا أدري إن كان هناك ما يعبر عنها بالعربية، لا أدري إن كان عربيا قد أمسك بهذه الحزمة من الأشياء المجردة وربطها معا، تعلمتها وفهمتها من الإنجليزية مباشرة.. هناك انفجار للمعاني المستحدثة وليدة السوشيال ميديا والتكنولوجيا وعلوم لم تكن موجودة منذ بضع سنوات لا مرادف لها بالعربية، لذا أصبحت مهمة أن أكتب بلغة عربية صافية دون اللجوء للألفاظ إنجليزية تزداد صعوبة.
فليس غريباً إذن أن تطغى لغات الحضارات المتقدمة، التي تشهد حركة أسرع في العلم والثقافة، لا أستغرب هذه الحقيقة مهما كانت مؤذية لكبريائنا كعرب، ولا أرى أنها قد تتغير بإشارة أصابع الاتهام إلى جيلنا باعتباره جيل مفرط في اللغة.. هذه فقط طبيعة الأشياء، إن كان ليس لدينا ما نصدره للعالم ونسميه بلغتنا، وليس لدينا من يهتم بنحت ألفاظ تعبر عن المعاني المستحدثة، فلن يقوم أحد بهذ المهمة نيابة عنا.
هل سأكتب بالعربية الآن؟ في الغالب نعم، لأنه لا مفر من لغة الأجداد ولأنها جزء من تكويني الثقافي وأداة من الأدوات التي أفهم بها الدنيا.
وأهم من كل هذا أني أحبها، ذلك الحب الأخرق المتوتر، المحاط بكثير من سوء الفهم والتخبط، الذي يشبه حبي لأمي.
[ads2]
سنتعارك كثيراً أنا واللغة العربية، ستسمع أصداء هذا العراك في كتاباتي، وسأتركها كثيراً وأعود للإنجليزية بحثا عن بعض الهدوء والشعور بالتحكم، لكني سأعود، احتياجاً لهذا النوع من الحب الأخرق المتوتر والشعور بفقدان التحكم. ولأني أشعر أنه رغم كل شئ، فهي مني وأنا منها بشكل ما، فذلك الشعر الذي قيل بالعربية، وتلك الروايات التي كتبت بها، والعامية التي اتحدثها والتي تستمد قوامها الأساسي منها، والصلاة والقرآن، كل هذه الخيوط العنكبوتية تشابكت حولي، وتداخلت مع نسيجي، فأصبح لا مفر لي منها.. لأنه لا مفر لي مني .
اقرأ أيضا : باسم الذهبي يكتب : هل نحن مصريون أصلاء ؟
المصدر : +18 وأنت حر