Header Ads Widget

الحكيم لم يكن شيطانا بقلم/ حاتم إبراهيم سلامة

مقالات -أقلام حرة -حاتم سلامة :
منذ فترة ليست بالطويلة، كنت أبحث عن بعض الأقوال في تفسير القرطبي، وراعني شيء لفت انتباهي، وهو وجود كتاب تحت عنوان مختار تفسير القرطبي، ولعل وجود مختصر للقرطبي أو مختارات منه، ليس بالأمر المدهش أو العجيب أو المحير، فكل التفاسير أو أغلبها لها مختصرات أو مختارات قام بها كثير من العلماء الافاضل، ولكن المدهش في هذا المختصر أنه لتوفيق الحكيم.!!

نعم نعم.. إنه هو توفيق الحكيم الأديب المصري الكبير الذي نعرفه، والذي نعده من قادة التنوير والتغريب العلماني، وهو ما دعاني للبحث والتنقيب في حياة الرجل أكثر وأكثر عن النقاط الايمانية، التي تتخفى وسط هذا الركام من شيوعه وانتمائه التغريبي.
ولعل هذا أول ما استنتجت من قيامه بهذا العمل والذي يدلل على أن الرجل كانت له معايشة عميقة مع القرآن الكريم، جعلته يقوم بهذا الجهد الكبير والعمل الدقيق.!


الحكيم مفكرا 

جميل جدا أن نغوص في أعماق هذه الشخصيات التي يتخذها اليوم من لادين لهم ولا ولاء يصرفهم للاعتزاز بأمتهم ودينهم وتراثهم رموزا وقادة، جميل جدا أن نغوص في خبايا حياتهم ومواقفهم حتى نستخرج الإيمان ومواقفه ولمساته التي تثبت عن يقين معرفة هؤلاء الناس بالله، وطاعته له وخوفهم من جنابه.
وهم على ما كان منهم من الأفكار العلمانية التغريبي، وعلى ما يخرج من أفكارهم وكتبهم بعض الهنات أو كثيرها، والتي تخالف الدين ولا تتوافق معه، إلا أنهم كانت في نفوسهم قدسية لله تعالى ووجلا منه، ورجاء لمغفرته، وهو الأمر الذي لا نجده عند أتباعهم، ويجب كذلك أن نستخلصه ونركز عليه لنبرز إيمان قوم لا سمعة لهم في دنيا الإسلاميين، إلا أنهم فجرة مارقون فاسقون منحرفون في الفكر والمعتقد.
ونحن في هذا على خطى شيخنا الدكتور محمد عمارة الذي تعود التفتيش عن جوانب الإيمان في نفوس وتراث هذه الشخصيات، والذي يعد منهجا يخدم الدين والدعوة إلى حد كبير.

بداية الرحلة 

منذ أيام بدأت القراءة لتوفيق الحكيم وهو يسرد تفاصيل رحلته إلى أوروبا، في كتابه رحلة بين عصرين، فراعني من هذه الفكرة شيئا توقفت عنده، أعرف أن صورة توفيق الحكيم التي تربى عليها خيالي، فهو رمز من رموز التغريب الضالة التي تعادي الدين وتأتي بأفكار منافية للدين، خلاصة الأمر أنه في خيال الكثيرين تماما كالشيطان الرجيم..
الرجل يخاف الله، ويعترف أنه يخاف الله، فلماذا نشيطن سيرته، ونراه عدوا للهوية والانتماء..
لقد اعترضوا على كلامي وقالوا لي: يبدو أنك جاهل بمعركة الحديث مع الله.. التي كانت جرأة وقحة منه على جناب الألوهية، وهاج معها وماج علماء الأمة ودعاة الإسلام يردون وقاحته ويلزمونه حده.
ولما رجعت لتفاصيل الحادثة، وحقيقة المعركة، لم أجد معركة، اللهم إلا معركة واحدة أثارها بعض العلماء ونفخوا فيها حتى صارحت حريقا هائلا.
أما حقيقتها في نفس الرجل، فإنها كانت شعورا إيمانا تدفق في نفسه، ودفعه أن يكتب مناجاة لربه، فخانه التعبير في العنوان وحده، وحينما تعارك معه الخصوم لم يمسوا شيئا من صلب الموضوع، وسطور مناجاته، كل المعركة قد قامت من أجل الشكل العنوان فقط.
ولما علم الرجل وأخبره أحد الصحفيين بهذا المعنى، تراجع فورا وقال: طبعا أنا لا أقصد هذا، وإذا كان حد يفتكر كدا يبقى أنا غلطان، لا أريد من أحد أن يفهمني خطأ، صحيح أنا واثق إن ربنا فاهمني وفاهم نواياي، لكن زي ما قلت أنت لازم نراعي الشكل.
وغير العنوان فورا من حديث مع الله إلى حديث إلى الله، بكل أدب وانصياع واستجابة بعيدة عن المكابرة والعناد.
ونشر الحكيم هذه الأحاديث فيما بعد في كتاب مستقل عام 1983، وأسماه “الأحاديث الأربعة والقضايا الدينية التي أثارتها”، وقال الحكيم في مقدمة كتابه:
“هذا الكتاب” الأحاديث الأربعة يضم الأحاديث التي نشرت بعنوان “مع وإلى الله” والتي أثارت الضجة المعروفة بين الناس مع أنها لم تزد عن كونها نوعا من المناجاة مع الله تعالى.. أستدرك وأقول: “إنها مناجاة بلغتي الخاصة وثقافتي الخلاصة تعبيرًا عن حبي الخالص لربي” فلن أقبل الفكر الذي يصدر بلا تفكر عن غير عقلي الذي خلقه الله ليفكر ولا أرتدي بلا مناقشة ما خرج من قلب وعقل الآخرين دون تأمل فيه وتمحيص، أما الضجة التي حدثت فهي طارئة ودخيلة على القضية التي سأفرد لها مكانا نظرا لأهميتها، هذا وقد رأيت عند إعادة الطبع في هذا الكتاب استبعاد كل الكلمات والأسطر التي كتبت تخيلات منسوبة إلى الله مراعاة للحساسية الدينية التي لا أريد إطلاقا أن تسبب إزعاجا لأي مؤمن، كما حرصت على تخريج الأحاديث الشريفة والأفكار التي وردت في الأحاديث الأربعة والتي قال عنها بعض العلماء إنها أحاديث موضوعة ضعيفة أو غير موجودة فعدت إلى المصادر التي استقيتها منها فإذا بها أحاديث حسنة الإسناد لا يكاد يخلو منها كتاب من أمهات الكتب الإسلامية!!.

وأضاف الحكيم إلى كتابه فصلا بعنوان: “أنا مسلم… لماذا؟” أجاب فيه عن السؤال بالقول “أنا مسلم لما جاء في الإسلام من عناصر ثلاثة: الرحمة، العلم، البشرية وقبل ذلك وفوق ذلك لأني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ثم لأني مؤمن بالرحمن الرحيم وهي الصفة التي وصف الله تعالى بها نفسه ونكررها في كل ساعة: بسم الله الرحمن الرحيم”.
وذكر في هامش كتابه إن حديثي مع الله وإلى الله في مقالاتي الأربع التزمت فيه أدب الحديث مع ربي:
كررت أكثر من مرة أنه لم يخاطبني وإنما أن الذي أجيب مستلهما ما يمكن أن يكون رد الله على تساؤلاتي مستلهما من قرآنه الكريم وسنة نبيه صلوات الله عليه.
تأويلي لبعض الآيات في حديثي استقيته من أمهات كتب التفسير والأحاديث استقيتها من أمهات الكتب الإسلامية.
الردود التي نسبت تخيلا إلى الخالق راعيت فيها أن تكون مقتضبة مثل “أكمل”، “استمر وأنت المحاسب على ما تقول”.. أو آية مثل رده علي بقوله “وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.. إلخ.
سامح الله من أساء فهمي ومن أساء الظن بقصدي ومن افترى عليّ ما لم أقله ومن أراد تنفيري من الإسلام دين السماحة واليسر".

توفيق الحكيم في فرنسا 

حينما رحل إلى فرنسا نزل في أحد الفنادق في الحي اللاتيني بباريس، وضايقه منه عدم وجود حمام بالفندق، فقالت له الخادمة العجوز هذا حال أغلب الفنادق في الحي، وعلى من يريد الاستحمام أن يذهب إلى حمام السوق، يقول الحكيم: وماذا عساي أصنع للوضوء؟ إني، معتاد الصلاة، وقد جئت من بلادي إلى أوروبا والإيمان ملء قلبي، كيف السبيل إلى التطهر إذن والمرحاض هنا لي به ماء؟! ورأيت بجوار فراشي قارورة ماء للشرب مغطاة بكوب زجاجي، فصرت قبل كل صلاة أحمل هذه القارورة معي إلى المرحاض، وكانت الخادمة تتعجب من حمله للقارورة في ذهابه وإيابه حتى أنها سألته عن ذلك متحيرة بقولها: هل تخشى العطش وأنت تسير؟ ولم تعلم العجوز أنها من أجل الضوء والصلاة.
وفي موقع آخر من كتابه رحلة بين عصرين يقول الحكيم: خطر لي الذهاب إلى حي مونمار، هذا الاسم الذي طالما سمعت به من قبل، ففترنا بأسماء الفنانين البوهيميين والأوباش وأهل الفجور، أما الأوباش وأهل الفجور فحاشا لله، فأنا والحمد لله مازلت محتفظا بروحي الديني"
ومن خلال هذه النصوص يظهر لنا خشية الحكيم من الله تعالى أن يرتكب ما ينهى عنه، وأنه كان يصلي ويحتفظ بنقائه الروحي.
*********************
لمحة أخرى من منهج الحكيم في تعامله مع النصوص الدينية، فقد كان الرجل حريصا كل الحرص على انتقاء الأحاديث الموثوقة والكتب المعتمدة، ولم يكن كغيره من العلمانيين أو المتشبعين بروح التغريب وهم يهيمون على الكتب المكذوبة والتي تعج بالتدليس والزور، ويلبسون على القراء أنها من تاريخ وتراث الإسلام.
ففي مسرحيته أو كتابه عن السيرة والذي يحمل اسم محمد صلى الله عليه وسلم، يقول: "خطر لي أن أضع كتابا في السيرة، فعكفت على الكتب المعتمدة والأحاديث الموثوق بها واستخلصت منها ما حدث بالفعل وما قيل بالفعل"
ويقول كذلك عند نشرة للمقالات التي أثارت الضجة التي أشرت إليها في مقدمة المقال: " كما حرصت على تخريج الأحاديث الشريفة والأفكار التي وردت في الأحاديث الأربعة والتي قال عنها بعض العلماء إنها أحاديث موضوعة ضعيفة أو غير موجودة فعدت إلى المصادر التي استقيتها منها فإذا بها أحاديث حسنة الإسناد لا يكاد يخلو منها كتاب من أمهات الكتب الإسلامية!"

فالرجل كان منهجه قائم على التحري النزيه وطلب الصحيح من الأحاديث التي يدلل بها على غايته ونبل محمود منه أمام ما نرى ونسمع من كتاب فقدوا الضمير، وهم يعلمون فساد المرويات التي يكتبون عنها ويرونها للناس، ومع ذلك تدفعهم الجرأة على هذه الوقاحة والإساءة لتراثهم وهويتهم ودينهم وتاريخ أمتهم.