ابداعات - قصص قصيرة -السيد الزرقاني
-كانت
الشمس تصارع سكون الكون الصحو، ترسل جدائلها الذهبية فوق جسور ترعتنا القبلية،
الأطفال يمرحون هنا وهناك، يرسمون فوق أجسادهم نمورًا وأسوداً، يقفزون بأجسادهم
العارية إلى جوف الترعة، تبتلعهم الواحد تلو الآخر، تخرج فقاعات الماء إلى الأعلى،
تعلن عن تحد الروح لمكنون الواقع المرير ..
لحظات تمر حابسة أنفاسهم في القاع، تغيب الأصوات مع الأنفاس في التحدي، من سيظل أطول من الآخر أسفل الترعة، لحظات تمر... يطل الواحد تلو الآخر فوق صفحة الترعة، تلمع أجسادهم البريئة عاكسة تلك الخيوط الذهبية إلى الفضاء الخارجي.
كانت (فاطمة) قد تركت طفلها (محمد) بصحبة أخته
التي جلست تتابع الأولاد وهم يغمرون أجسادهم في ماء الترعة العكر ، وضعته على
حافة الترعة على كومة تبدو كلسان أرضي في ثنيات الشاطيء، وضعت أمامه تلك
اللعبة البلاستيكية التي يحب العبث بها، راحت تراقب الأولاد وهم يبحرون
بعيداً عن الشاطئ، كان صراخهم يعلوا وينخفض وهم يتقاذفون دفات المياه كل في
وجه الآخر، عيناها متصلبتان على بن الجيران الذي يجاهد نفسه في محاولة الهروب من
الغرق بعد أن بلغ هذا المكان العميق بعيداً عن الشاطيء، كانت تنادي عليه بصوت
عالٍ والأطفال قد ابتعدوا عنه ، الأمواج تسحبه إلى الداخل، يتجرع الماء عنوة
، تحشرج صوته، تنادي على الأولاد لإنقاذه من الغرق لا أحد يبالي، جرت بعيدا عن
أخيها تناشد الرب أن ينقذ ابن الجيران ، كانت المياة كالفك المفترس تظهر
أنيابها السامة ليقبض على أنفاسه، يصرخ كلما طل بوجهه إلى سطح الماء، ينظر إليها
لاهثاً ، يثبت نظره إلى أفرع الصفصاف المدلاة على صفحة الماء، على الجانب الآخر،
جرت بعيداً، حاولت أن ترمي إليه بحزمة الحطب من أعواد الذرة المكومة على شاطئ
الترعة، لعله يتشبث بها وينجو من الغرق، الأمواج تسحب حزمة الحطب إليه يتسرب إلى
أعماقها الأمل،تنادي عليه ،لكنه لا يسمعها حين يطول احتباسه أسفل المياة ، بعد أن
خرت قوته من تطاحن الماء عليه ، أمسك
أحد أعواد الحطب وكأنه أمسك بذراع المنقذ، يحاول جاهداً جذب بقية الحزمة إليه
ليتعلق بها هو يراها بعيدة عنه، وهي تراها قريبة منه يزداد صراخها (مد
ايدك...مد ايدك..خلاص قريبة منك...)
كانت الدموع تنهمر من عينيها بلا إرادة، جرت بلا
وعي إلى باب الجيران تنادي بصوت مخنوق لإنقاذ ابنهم ،خرجت أمه تصرخ مهرولة
نحو الترعة، ومن خلفها الجيران، صوت النساء علا بالصراخ والكل ينظر الى الولد
المتشبث بحزمة الحطب، قام أحد الشباب بإلقاء نفسه إلى أعماق الترعة ، وصل إلى
الولد واحتضنه إلى الشاطئ، الكل يحمد الله ومازالت الدموع تنهمر من عيون
النساء.
(فاطمة ) تسأل ابنتها عن أخيها الصغير الذي تركته على حافة الترعة مع لعبته البلاستيكية.. فراحت تبحث عنه ولكنها لم تجده، بل وجدت لعبته تطفو فوق ماء الترعة تتقاذفها الأمواج، علا صراخ النساء تنادي (محمد) الذي لا بد كان ساجداً في قاع الترعه دون أن يراه أحد... صعدت روحه محلقة في فضاء الكون المتسع لكل صرخات الأمهات. و أشعة الشمس تحتضن القلوب المكلومة على شاطيء الترعة.
*******