الأميرة فتحية هي أصغر شقيقات الملك فاروق، وأحب بنات
الملكة نازلي إليها، وكان والدها الملك أحمد فؤاد يحبها كثيرًا ويستبشر بها، وقد
علمتها مربيتها الإنجليزية عندما ترى الملك أبيها أن تُصفق وتقول (يعيش جلالة
الملك) وكان هو بدوره يحبها ويقبلها.
وقد عُرفت فتحية التي ولدت في 17 ديسمبر عام 1931 بحبها
للفقراء، حتى أنها كانت توزع مصروفها على الخدم بقصر الدقي، حيث كانت تقيم مع أمها
الملكة وقد عرفت مُنذ صغرها برقة القلب ورهافة الحس وتحليقها في عالم رومانسي تعيش
في أجوائه.
ويروى عن فتحية أنها كتبت موضوعًا إنشائيًا تحت عنوان
(أُمنيتي) أحدث دهشة عند أُمها الملكة نازلي عندما تحدثت فيه مُتمنية أن تكون
فلاحة بين الفلاحين تعمل على تغير حياتهم وتُشيد لهم البيوت وتصنع لهم ملابسهم
وترتدي نفس زيهم الفلاحي الجميل وقد سألتها الملكة نازلي أين رأيت هؤلاء الفلاحين
وأنت في هذا السن الصغير؟
أجابت: لقد رأيتهم على طول الطريق من القاهرة إلى
الإسكندرية حفاة مغروسين في الطين!!
وقد عاشت فتحية مع أُمها في عزلة عن جو السرايا الصاخب
ولكنها كانت تعشق أفلام السينما وترى فيلمًا كل يوم وكانت تُقلد إحدى المُمثلات
المعروفات وقتها وهي الفنانة (شيرلي تمبل) ولكنها لم تعرف في صدر شبابها أي صداقة
مع الجنس الآخر ولما سافرت مع أُمها إلى أمريكا ووجدت شقيقاتها يعشقن ويتزوجن كانت
تترقب تلك اللحظة رؤية رومانسية مُتصورة فيها الفارس فتى الأحلام.
وحينما قاربت على العشرين من عمرها كانت الملكة نازلي
بولاية مينسوتا الأمريكية قد دخلت المستشفى لإجراء عملية وفحوصات في الكلى وقد
انتهز رياض غالي أفندي المرافق للملكة والأميرتين الفرصة لينفرد بفتحية وكانت هي وأختها
الأميرة فايقة يتناوبان السهر على أُمهما بالمستشفى وفي نوبات سهر فتحية وفي تلك
الفترة التي تشعر فيها بالوحدة القاتلة كان الأفندي غالي يمد يده إليها لينتشلها
من حالة الغربة والكآبة التي كانت تُعانيها.
وقد استغل بالطبع قلة خبرتها بالحياة ورومانسيتها
المُفرطة وأخذ يتقرب إليها أكثر وأكثر وتسلل بالفعل إلى قلبها دون أن تدري وكان
رياض غالي يجيد العبارات المعسولة ويستطيع أن يتقمص الأدوار التي يقوم بها، وكما
تقمص دور الخادم المُطيع والابن البديل للملكة نازلي تقمص بسهولة دور الفارس
الحبيب للأميرة فتحية.
وعلى الرغم من أن الجميع قد لاحظ أن الملكة نازلي تحبه
وتطيعه بدرجة غير عادية لم تلاحظ الأميرة فتحية ذلك اعتبرت أن كل ما يحدث هو اللون
الأبيض لرومانسية الحياة.
ولكن لا أحد من الدارسين والمهتمين إلا وسجل قصة غرام
نازلي ورياض على هامش قصة غرام رياض مع الأميرة فتحية، ووصل تعلق فتحية بالأفندي
الدبلوماسي إلى درجة أنها حاولت أن تقنع أُمها بالبقاء في أمريكا عندما طلب فاروق
من أُمه العودة، فقد تمكن رياض من إقناع الأميرة بأن العودة معناها نهاية حبهما
لأن الملك سوف يُمزق رياض إربًا ويأمر بحبسه أو التخلص منه، ولم تدر فتحية أن الأم
أيضًا لا تريد العودة!!
وأثناء وجود مبعوث الملك في أمريكا وهو وكيل الديوان
الملكي (حسن يوسف) يطلب من الملكة العودة بالأميرتين، وأن غضب الملك فاروق في
طريقه للانفجار , كان رياض غالي بغرفته في نفس الفندق يشعر بالخطر ويُواصل مسلسل
العشق والهوا بالتليفون نهارًا مع الأميرة فتحية وباللقاءات السرية ليلًا مع
الملكة نازلي بعد نوم الجميع!
وقد حدث في أثناء مُحاولة فاروق إقناع الملكة نازلي
[بالعودة حتى أنه أرسل لها شريف صبري شقيقها لإقناعها] أن ضاع من فتحية بروش كان
يُقدر بأكثر من عشرين ألف جنية مصري في الأربعينات، فقد كان مُكون من ستة وثلاثين
حجر من الماس وثلاثين حجرًا من الزفير.
وكانت الأميرة قد فقدته عند ذهابها للمسرح برفقة أُمها
وأُختها، وقد قام رياض غالي بدور جوهري وببحث طويل عن هذا البروش ولجأ للبوليس
والخارجية، بل أنه أجر مخبرًا خاصًا عن طريقه استطاع أن يعرف أن أحد عُمال النظافة
قد وجده وعاد رياض بالبروش إلى فتحية، وقد قيل وقت ذلك أنه دبوس الحب الذي شك
الأميرة وجعلها تتعلق برياض إلى الأبد.
كان الغريب هو رد فعل الملكة نازلي، لقد غيرت بسرعة كل
مُخططاتها رأت أن وجود الأميرتين فايقة وفتحية بجانبها وأن يكون لهما زوجين رهن
طاعتها وإشارتها هو كل شيء.
وبسرعة بدأت تعد العدة إلى زواج فتحية من الأفندي رياض
غالي، إن هذا التحول كان غريبًا أن ترضى بأن يكون الرجل الذي ضحت بابنها من أجله
هو زوج ابنتها!!
إنها اعتقدت طالما أن فتحية لم تر شيئًا فإن العالم كله
لم ير! وبالطبع كانت نازلي تريد أن تعلن الزواج وأن تنجح مشروعها الجسور باختيار
الوقت المُلائم لإعلانه.
وبدأت في استقراء كل الحوادث التي تحيط بها في محاولة
للاستفادة منها وجاءها ما تريد حادث غريب في مارس 1950 فقد التمست صاحبة السمو
الإمبراطوري البرنسيسة فاطمة صغرى شقيقات شاه إيران من أخيها الشاه أن تتزوج من
شاب أمريكي مسيحي اسمه (فنسنت هالر) وشجع ما فعلته البرنسيسة فاطمة الملكة الوالدة
أن تستمر في مشروع فتحية والأفندي، و لكنها فوجئت بردود أفعال عنيفة، فقد ثار
الإمبراطور على أُخته فاطمة التي كانت قد قررت الزواج من المسيحي الكاثوليكي بدون
إذنه، بل أنها حينما واجهته بأنه غارقًا لأُذنيه في حب رسامة أمريكية هي (روس
استيفن) هجرها الإمبراطور الإيراني وأصدر قرار بحرمانها من لقبها وميراثها وجميع
حقوقها كمواطنة إيرانية
وحرمها من العودة إلى بلادها وتلقى برقيات تهنئة من كل
أنحاء العالم الإسلامي تشيد بموقفه وتُؤيد قراره.
وحين أعلنت البرنسيسة فاطمة بأن زوجها ينوي أن يشهر
إسلامه طبقًا للطقوس الإسلامية رد عليها (قدور بن غبريت) أحد كبار الدين الإيراني
بأن الإسلام اعتناق لعقيدة وليس مُجرد وسيلة لتحقيق مآرب دنياوية كالزواج.
ومرة أُخرى اضطرت الملكة نازلي للتراجع وطلبت من الأميرة
فتحية أن تعيد النظر وساد جو من التشاؤم في الأجنحة الملكية بفندق (فيرموند) لكن
الأزمة سرعان ما انفرجت نتيجة لتدخل والدة الامبراطور الذي أدرك أن تشدده الذي
أرضى رجال الدين قد يدفعهم لكثير من التدخلات في الحُكم على أساس ديني.
وبخاصة حينما نشرت قصة غرامه بالرسامة الأمريكية الشابة
(روس) فصدرت الأوامر بإيقاف مثل هذه الحملات، واتصل الامبراطور بشقيقته مُهنئًا
إياها بالزواج وأصبح هُناك حملة يقودها القصر الإيراني بأن النُطق بالشهادتين كاف
للتثبت من إسلام الإنسان وأن علينا بالظاهر والله أعلم بالباطن
وعقد القران الديني
بالسفارة الإيرانية بباريس على يد أحد رجال الشيعة وهو الإمام (شرازي) .
آنذاك حزمت
الملكة نازلي أمرها واتصلت بالقاهرة لتعلن عن خطبة الأميرة بالأفندي.
واستدعى فاروق رئيس وزارته مصطفى النحاس وطلب منه العمل
على منع الزواج المتوقع وبأي شكل، ولكن نازلي ردت عليه بازدراء ولم تعره أي اهتمام
وقالت له (أوامر فاروق ماتمشيش علينا).. وهنا حاول فاروق إعداد خطة سرية لخطف
الأميرة فتحية من أمريكا بجواز سفر دبلوماسي يحمل اسم سيدة أُخرى ولكن الخطة فشلت.
وفي اليوم التالي من فشل هذه الخطة استدعى فاروق شقيقته
فوزية وشكى لها أُمها وأختها وقال لها (مُستخدم بسيط في الخارجية عرف يضحك على أمك
وأختك علشان يأخذ فلوسهم لكن ولا مليم راح يطوله مني والزمن بيننا طويل).
ولكن فوزية قررت ألا تتدخل فقال لها (أنتِ شايفه المسدس
ده أنا هفرغه في قلب رياض غالي). وهنا دخل رئيس الديوان ليهمس في أُذن الملك بأن
وزير خارجيته بالباب، وعلى الفور أذن له بالدخول.. وما إن رآه فاروق حتى صرخ في
وجهه قائلًا: (هل جبت الولد؟! فامتقع لون الوزير ورد بصوت خفيض: لا يا مولاي!!
وبعد أن يأس الملك من وقف الزواج بعث إنذار للحكومة
الأمريكية عن طريق السفارة لترحيل نازلي وابنتها إلى مصر، ولكن نازلي اتصلت بالسفارة
الأمريكية وقالت لمسئوليها أنها لا تريد مُغادرة أمريكا، وهنا أمر فاروق الذي أعطى
والدته وأُختيه أكثر من مليون دولار كمصاريف للرحلة الكُبرى إلى أمريكا أمر أُسرته
أن ترجع إلى القاهرة ورفض الزواج رسميًا واتصلت به نازلي شخصيًا كي تصل إلى قلبه
وقالت: (كنت أُحاول أن أثير مشاعره لكي يفهم أن ذلك الأمر يعني سعادة أُخته) ولكن
فاروق كان له رد فعل ضد إرادة الملكة الأُم.
سحب فاروق جواز سفر رياض غالي الدبلوماسي واتهم أُمه بالتبديد
وأرسل إلى إمام جامع (سكر أمنتو) الذي يقع بكاليفورنيا وهو الجامع الوحيد فيها
يحلفه بالامتناع عن تأدية مراسم هذا الزواج.
ولم تنزعج الملكة نازلي حينما وافق إمام الجامع (حسن
النهاوند) على طلب المالك، فقد قامت بإخبار الصحافة من فندق فيرموند أن الزواج
سيتم، وأن هُناك إمامًا سيهبط من السماء ليجري مراسم الزواج.
كان هناك صراعًا حقيقًا بين فريق القاهرة بقيادة الملك
فاروق وفريق سان فرانسيسكو بأمريكا بقيادة الملكة نازلي من كل الفريقين يريد أن
يحسم هذا الزواج.
وحسم فريق سان فرانسيسكو الموقف بعد أن عثر على مبشر
باكستاني مسلم ( يقال أنه يتبع الطريقة القاديانية) اسمه (بشير أحمد) وافق على إشهار إسلام رياض غالي وعلى عقد قرانه
على الأميرة فتحية طبقًا للشريعة الإسلامية .
وصدرت لإدارة الفندق بسان فرانسيسكو أن
تزيد في الخدمات الأمنية على الأميرة فتحية واعتكفت الملكة نازلي بالفندق وطبعت
بطاقات الدعوة الخاصة بحفل الزفاف وتقرر عقده يوم 28 مايو عام 1950 وأرسلت إلى
حوالي مائتين مدعو ولكنه تبين أنه يوم أحد وأنها قد راعت فيه إجازة ضيوفها
الأمريكيين ولم تراعي التقاليد المصرية التي تعارفت على عقد القران في مساء يوم
الخميس وأدركت بذكائها أن اليوم الذي اختارته للزواج سوف يغري خصومها بتأويلات
كثيرة فقررت تقديم الموعد من الأحد إلى الخميس 25 مايو عام 1950 وذكرت في الدعوة أن
ذلك تبركًا بليلة الجمعة وأرسلت بطاقات تلغرافية جديدة بالموعد الجديد.
ومُنذ الصباح الباكر لذلك اليوم زينت قاعات وردهات
الفندق بالزهور وقبل الخامسة بقليل كانت جميع القاعات قد ازدحمت بالمدعوين وجاء
الإمام من باكستان ولم يلتفت إلى لعنات فاروق وكان من بين الضيوف (ايدبولي) وهو
المليونير صاحب شركات البترول الذي تربطه علاقات حميمة بالرئيس ترومان وكذلك ابنه
الحاكم ايريل وأرمن ويزنت القاعة على شكل غابة من الجاردينيا البيضاء بها شجرة
مجنوليا كبيرة.
وفي الخامسة تمامًا ظهر رياض غالي وكان يرتدي بدلة بنجور
ويبتسم في سعادة وقد وضع على معطفها وردًا برتقاليًا وبعض النباتات البيضاء، أما
العروس فقد ارتدت فستان زفاف عاجي اللون مصنوع بفرنسا مُزينًا بالترتر معه طرحة
شفافة وريشة من ريش طائر عصفور الجنة حول الصدر وللثوب ذيل طوله عشرون قدمًا، أما
الملكة الوالدة فكانت ترتدي ثوبًا للسهرة من الحرير الأزرق مفتوحًا من الامام حتى
الصدر وينتهي بمشبكين كبيرين من الماس، إذ أنه لم يكن له أكتاف، وقد حلت صدرها
وأُذنيها ويديها بطاقم الماس الشهير واتجهوا جميعًا إلى القاعة الكُبرى وسط حشد من
المدعوين والمُصورين والصحافيين، وقد تأبط الأفندي فتحية من الجهة اليسرى والملكة
الأُم من الجهة اليُمنى.
وأعلن رياض غالي أمام المبشر بشير أحمد الباكستاني أنه
مسلم وتلى الشهادتين، ثم وضع المأذون يد الأميرة في يد الأفندي وقال لها قولي
زوجتك نفسي على كتاب الله وسنة رسول الله وعلى الصداق المُسمى بيننا، فرددت الأميرة
ما سمعته بصوت به ارتعاش وقال للأفندي قل لها قبلت زواجك على كتاب الله وسنة رسول
الله فردد رياض غالي دون أن يرتعش له صوت.
وعند شجرة المنجوليا خطب الإمام الباكستاني خطبة زواج
طويلة تضمنت تعليقًا واحدًا غير مباشر عن الملك فاروق فقال الإمام (أنه ضد الإسلام
أن يقوم رجل بوضع العراقيل في طريق من يريد الزواج بمن يحب).
وقال أيضًا عبارة (الإنسان يستطيع أن يجد الجنة تحت
أقدام أمه) وبعد أن تمت مراسم العقد، أحجم غالي عن تقبيل عروسه الجديدة مُتبعًا
بذلك التقاليد الإسلامية، وقام كل الأشخاص بتبادل القبلات وصاحت نازلي قائلة ثلاثة
مرات: أنا سعيدة للغاية لقد كنت الملكة لفترة طويلة وأعتقد أن الميزة الأولى في
الملكة أن تكون امرأة صلبة.
ثم قامت ورقصت مع كل السلك الصحافي تقريبًا وقام رياض
غالي فقد إلى زوجته هديتين ثمينتين إحداهما خاتم الزواج وهو من البلاتين ومرصع
بثلاث قطع من الماس وكتبت عليه كلمة أحبك بالإنجليزية، أما الهدية الثانية فكانت
مشبكًا مُتوسط الحجم من البلاتين أيضًا.
وما حدث بعد ذلك أن قام فاروق في القاهرة بتوقيع مرسوم
ملكي يلغي زواج أُخته ويحرمها من لقبها ومن كل المميزات المُلحقة بهذا اللقب، بل
إنه أمر بمصادرة كل أملاك نازلي إلا إذا عادت إلى مصر خلال ستة أيام، بل إن المجلس
الملكي برئاسة الأمير محمد علي اعتبر الملكة نازلي قد تحدت النظام الملكي وأصول
الدين وكرامة البلاد وكبرياء العائلة الملكية ولم تعد نازلي أبدًا إلى مصر.
غادرت سان فرانسيسكو على السفينة برزدنت ولسون وهي
مرتدية حلة شانيل وعقدًا من الزهور حول عنقها، وكان معها على ظهر السفينة العروسين
متوجهين ثلاثتهم إلى هونو لولو لقضاء شهر العسل.
وعندما سألت عن تجريدها من ممتلكاتها ولقبها ملكة لمصر
أجابت بمرح من المحتمل أن أبحث عن عمل وابتسمت.
ومثلما أحدث زواج الأميرة فوزرية من شاه إيران نقاشًا
وانقسامًا بين الفرق الإسلامية حول السنة والشيعة حدث نفس الشيء في زواج البرنسيسة
فتحية والأفندي غالي، إلا أنه في هذه المرة كان الانقسام أشد والحوار أكثر
احتدامًا.
وأطلت برأسها الفتنة الطائفية بالقاهرة في الوقت الذي
كان فيه الرقص حتى الصباح في سان فرانسيسكو.
وبسرعة أدخلت الملكة نازلي نفسها في هذه الأحزاب وأطلقت
صاروخ مدفعيتها الثقيلة بحديث طويل لعلي أمين قالت فيه: إن فتحية لم تخرج عن
التقاليد الملكية بزواجها من شاب مسيحي، وبخاصة أن هذا الشاب أعلن إسلامه، فقد جاء
في وقت من الأوقات ضابط مسيحي في الجيش الفرنسي هو الكولونيل سيف والتحق بخدمة
محمد علي الذي أُعجب به فاعتنق الإسلام وأصبح اسمه سليمان، هذا الضابط هو جدي أنا
وجد فتحية وجد فاروق.
ومع أن هذه الحقيقة لم تكن سرًا إلا أن التذكر بها في
هذا المناخ المتوتر كان بمثابة وضع الزيت على النار، وقد بدأ العوام في الشارع
المصري يحذفون كثيرًا من رصيد الأُسرة الملكية بمجرد معرفتهم بهذه الحقيقة، حتى أن
رئيس الوزراء مصطفى النحاس قد أراد أن يلم الشمل بين المسلمين والمسيحيين فقال في
افتتاح مجلس الوزراء [إن الجميع يستنكرون ذلك، حتى أهل رياض غالي نفسه وذووه].
ورغم انغماس الصحف في الحملة على الزواج فقد حاولت أن
تُقاوم الأعراض الطائفية وتركز على أن جميع الأديان تلعن الرجل الذي يترك عقيدته
على أساس دنيوي وتحاول أن تظهر رياض غالي بالصائد في الماء العكر بأن تخرجه من
الأقباط وتخرجه من المسلمين فهو خرج على الأقباط ليتزوج وتظاهر بالإسلام ليخدع
فتاة صغيرة، ولكن تلك النداءات الإنسانية الزاعقة لم تفلح في إخفاء حقيقة أن
الاعتراض على الزواج قام مُنذ البداية على الاستعلاء من أن تتزوج أميرة بأفندي حتى
أخذ شكل استعلاء الإسلام على المسيحية والمسلمين على الأقباط وأن الصحافة قد
حاولت أن تكون مع الملك في ذلك الوقت فتعصبت للدين بشكل غير مُباشر، فكتب محمد
التابعي مثلًا في مجلة آخر ساعة (أجل نحن مُتعصبون).
وفي مُحاولة لإعادة الحادث إلى حجمه كتب سعد صادق أن
حادث رياض غالي هو حادث شاب مصري طائشًا يجب ألا يمس الإسلام والمسيحية في شيء،
وسط هذا الغليان تحرك الأمبا (بوساب الثاتي) وزار قصر عابدين على رأس وفد من كبار
الأقباط للتعبير عن أسفهم عما جزى واعتذارًا عن جريمة لم يرتكبوها وإنما هو تهور
من شاب مسيحي خرج عليهم وهو رياض غالي.
ولم يعجب هذا التصرف الأقباط واعتبروه بهذه الزيارة قد
اعترف بجريمة قبطية لم يرتكبها أحد، وتسأل الصحفي موسى صبري وقتها هل مطلوب من
الكنيسة أن تعتذر عن كل جريمة يرتكبها قبطي من جرائم القتل والسرقة ويعتبر كل
الأقباط مسئولون عنها.
أما الصحفي سامي داوود فقد طرح القضية كلها من مُنطلق
آخر، ماذا كان على الكنيسة أن تفعل لو أن الملك قد وافق على زواج رياض غالي بعد
إشهار إسلامه، ماذا تفعل الكنيسة حيال خروج أحد أتباعها عليها واعتناقه دينًا آخر
من أجل غرض دنيوي؟!
واعتبر بذلك أن هذه الزيارة من الأمبا بوساب ليس إلا
ترضية للملك وليست التزامًا دينيًا وتسأل سؤالًا آخر ماذا يحدث لو وافق الملك على
الزواج واعترضت الكنيسة؟ بالطبع سيقول المسلمون كيف تعارض الكنيسة في إسلام قبطي
رضينا بزواجه من شقيقة ملك البلاد وبالتالي قرر أن الكنيسة تقع في حرج دائم وفي
جميع الأحوال وأنه مع هذه الزيارة بشرط أن لا يكون لها معنى ديني.
أما إحسان عبد القدوس فقد نظر إلى القضية بأنها ظاهرة
وقدم مئات الحالات اعتنقت فيها زوجات مسيحيات الدين الإسلامي لمجرد احتفاظهن
بنصيبهن من إرث الزوج وحالات اعتنق فيها الإسلام أزواج مسيحيين بهدف تطليق زوجاتهم
المسيحيات، وحالات أُخرى اعتنقت فيها نساء مسلمات الدين المسيحي ليتزوجن من رجال
مسيحيين.
ثم ضرب مثالًا بأسرة أجنبية دخلت مصر وأعلنت الإسلام
بقصد ترويج تجارتها، مع أن هذه العائلة لا تزال تُؤدي فروض الديني المسيحي كاملة
ولا تزال النساء فيها تحمل على صدرها صليب من الذهب، ولكن كان حصولهم على الجنسية
المصرية أسهل ومهم مسلمون.
وطال في نهاية مقالاته التي تعددت بألا يعتد بتغير
الأديان لأهداف دنياوية وأن ينظر في كل حالة من هذا القبيل على حدة وتفحص فحصًا
تامًا وتدرس مخافة من أن يكون الدين قد اتخذ ستارًا لأغراض دنياوية دنيئة.
وظهرت مقالة أُخرى لأحمد زكي عبد القادر يقول فيها أن
مصر دولة إسلامية وبالتالي فالنظام العام فيها يسمح بالدخول في الإسلام ولا يسمح
بالخروج من الإسلام لأي دين آخر، وبالتالي فالقضية كيف نقبل المُنافقين الذي
يدخلون ديننا لأغراض دنياوية أو لأُخرى دنيئة، وبالطبع شعر بعض الصحافيين أن هذا
الكلام يعني عدم المُساواة بين المواطنين المُسلمين والمواطنين المسيحيين داخل
الوطن، فظهرت مقالات أُخرى في جريدة الوطن تقول أن هُناك فصلًا بين الدين والدولة
وأن مصر دولة قانونية وبالتالي فالكل مواطنين يحكمهم الدستور والقانون.
واستمرت حملة النبش في الجرح ووجد فيها البعض فرصة لنشر
الغسيل القذر للأسرة المالكة وظهر التنكيت والتبكيت في المقاهي وعلى طول شاطئ
النيل في قيظ صيف القاهرة. وتدخل كريم ثابت باشا المُستشار الصحفي للملك في تغيير
دفة الحملة وتوجيهها لأشياء أُخرى كثيرة.
وليس أمامنا إلا تتبع الشكل السينمائي في الرواية بأن
ننتقل بسرعة من الجدل القائم في القاهرة إلى طرفي الزواج الضاحك الباكي.
الأُسطوري الجسور ما الذي حدث وما الذي تم وهل أصابته
اللعنة الإغريقية التي تصيب كل الأفعال الجسورة التي يأتيها الإنسان؟ هل حدث
لفتحية وغالي ما حدث بتنتالوس حينما سرق النار فعاقبته الآلهة فوق جبال الألب
بالعطش إلى الأبد والخوف إلى الأبد والعذاب إلى الأبد.
إن تنتالوس عاقبته الآلهة بأن يرفع حجرًا حتى القمة وقبل
أن يصل إلى القمة ينزلق الحجر إلى السفح فيعود لرفعه هكذا إلى الأبد وأن يحفر في
الأرض حتى يجد الماء، وحينما يشرب ينحسر الماء وهكذا إلى الأبد وهذا ما حدث مع
رياض وفتحية!!
الزوج الملعون يغدر بزوجته الأميرة وأمها الحيزبونة
تغيرت معاملة رياض مع فتحية ونازلي لدرجة كبيرة لمجرد أن
خلعت الثورة فاروق عن العرش وأخذ ينفق ببذخ على لياليه الحمراء، وبلغ به الأمر حد
الوقاحة والإهانة بتوجيه أفظع السباب للأميرة، وبعد أن أنجبت فتحية أولادها رفيق
ورؤوف ورانيا كان مطلوبًا منها أن تعمل بنفسها لتتقوت بعد أن تدخل رياض غالي في
إدارة أموال الملكة والأميرة ومما زاد الطين بلة أن رياض غالي أصبح يقيم علاقات
غرامية فاضحة مع بنات الهوى والساقطات بل أنه أدمن الخمر والقمار والحشيش
والأفيون.
وعندما وجد رياض غالي إصرارًا من جانب فتحية ونازلي على
امتلاك المجوهرات والممتلكات وعدم تنازلهما عنها انتقل من السب إلى الضرب فتركت
فتحية له البيت إلى الإقامة في الفنادق وحلت القطيعة محل الوفاق ورأت الأميرة
فتحية والملكة نازلي أن رياض غالي الذي كان ملاكًا لهما قد تحول إلى شيطان ضدهما
وقررا أن يخرج من حياتهما سويًا.
وانتهزت نازلي واقعة قيام رياض غالي بمحاولة الاعتداء
بزجاجة شمبانيا في ملهى ليلي على فتحية ومحاولته قتلها لأنها رفضت أن تدفع الحساب
وسجلت الواقعة بمحاضر البوليس فطلبت رفع دعوة قضائية مستعجلة بالطلاق وتم الحكم
لها بالطلاق في 13 أبريل عام 1965 ومع ذلك لم تنتهي المتاعب بل ازدادت حدة وضراوة
وليس أمامنا إلا تحديد التواريخ للأيام الأخيرة لحياتهما معًا.
الأميرة فتحية عاملة نظافة
في ديسمبر 1976 حصلت الأميرة فتحية على عمل لها كعاملة
نظافة لأرضية المكاتب مما عجل بنهايتها!!
كانت وقتها فتحية في الخامسة والأربعين
من العمر ونازلي في الثمانين وفي نفس الشهر كانت الأم والابنة قد مثلتا أمام
القضاء لإعلان إفلاسهما وانتقلا إلى شقة في منزل غرب لوس أنجلوس إيجارها متواضع
للغاية في منطقة مكتظة بالسكان خليط من اليابانيين والمكسيكيين والعمالة اليومية،
وبالرغم من ذلك فإن نازلي قد صاحبت فتحية لاستشارة عرافة هوليود الشهيرة (كبرينا
كتندا) والتي حذرتها من رجل قريب منهم يعمل بائعًا في محلات للمجوهرات وكانت تقصد
رياض غالي (الذي كان وقتها قد أضاع الثروة وعمل عند غيره).
وفي 10 ديسمبر عام 1976 أجرت نازلي مُكالمة لأبنتها ولم تتلق ردًا، عَرِفَت يقينًا أن شيئًا
خطيرًا قد وقع، وعندما وصلت إلى شقة أبنتها وجدتها مقتولة وغارقة في بركة دماء بسبب
رصاصة اخترقت رأسها، وإلى جوارها كان رياض غالي ينزف بغزارة وهو فاقد للوعي من جرح
بالرأس أحدثه بنفسه وما زال مسدسه في يده.
وعندما أنقذ غالي، قدم للمحاكمة بتهمة القتل غير المتعمد
لإنسان وذلك لموت الأميرة السابقة، وقد قضى عامًا في السجن ولكنه توفى بعد ذلك
بعدة أعوام.
وفي يونيو عام 1978 ماتت الملكة نازلي عن عمر 83 عامًا،
وكانت وابنتها قد تحولتا إلى الكاثوليكية، وقد دفنت بعد احتفال بسيط في كنيسة
الابن شيفر في بيفرلي.
أما أوراق التحقيق التي كانت مع رياض غالي فقد كان فيها
أن هناك محادثة تليفونية جرت بينه وبين فتحية بعد أن توفيت والدته طالب فيها من
فتحية الحضور لتتسلم المُتعلقات الخاصة بوالدته قبل رحيلها حيث كانت تقيم معه بعد
أن تركته فتحية وطلب منها أن توصل ملابسها وحاجياتها إلى أهله في اليونان حينما
عرف أنها ستتوقف هناك قبل رحلتها المقررة إلى مصر.
وذهبت فتحية بالفعل بعد أن استأذنت أمها الملكة نازلي
وهناك حدثت الجريمة حيث كام مخمورًا، وبعد مُشاجرة حادة اكتشفت أنه أطلق عدة طلقات
نارية عليها وهكذا انتهت البرنسيسة والأفندي، وبتشريح جثة فتحية تبين أنها تلقت
أربعة أعيرة نارية وأنها كانت جالسة القرفصاء بالقرب من منضدة ببهو شقتها وأنها
كانت ترتدي بنطلون وبلوزة ولم تكن تتحلى بأي مصوغات ماسية أو ذهبية.
وهكذا تحققت نبوءة العرافة الأمريكية (كبرينا كتندا)
التي حذرت الملكة نازلي وابنتها البرنسيسة فتحية من الأفندي رياض غالي.
وجاءت نهايتها إغريقية على طريقة كتابات شكسبير، قتلها
حبيبها الذي من أجله باعت كل شيء وانتهت حياتها غريبة في أرض غريبة في الوقت الذي
كانت قد حددت فيه العودة إلى مصر، بل فوق ذلك لعبت الأقدار لعبتها فإذا بغالي
كومبارس التاريخ يقتل الأميرة ويسمح له التاريخ أن يعيش رغم كل محاولات فاروق
لاغتياله أو خطفه عن طريق الحرس الحديدي الذي أُنْشِأَ من أجل ذلك الغرض.
وهذا ما دفع الضابط سيد جاد أحد أقطاب الحرس الحديدي أن
يقول لا أحد يستطيع أن يخطط للاغتيال ويضمن النتائج، فقد أراد الملك قتل الأفندي
فقتل الأفندي البرنسيسة أخت الملك!
...
بقلم / أشرف مصطفى توفيق
...
بقلم / أشرف مصطفى توفيق