جمال أسعد عبد الملاك يكتب :
========
تجديد الفكر الدينى لا علاقة له بثوابت الدين ولا مقاصده العليا، ولا قيمه الرفيعة ولا نصه المقدس الموحى به من الله، حسب عقيدة كل متدين، ولا تراثه الصحيح الذى يتوافق مع صحيح النص ومقاصد الدين، ذلك التراث الذى يتوافق مع زماننا ومكاننا وظروفنا وسعادتنا وتقدمنا؛ حيث إن الدين يقصد ويهدف فى الأساس إلى سعادة الإنسان لا إلى شقائه.
ولكن التجديد يستهدف الفكر البشرى المحدود وغير المطلق الذى لا يتوازى ولا يتوافق مع الوحى والموصى به، ذلك الفكر البشرى الذى يُعمل اجتهاده فى شرح وتفسير وتأويل ذلك النص، سواء كان هذا النص هو النص المقدس الموحى به، أو ذلك النص التراثى الذى هو ابن المكان والزمان والمعطيات الاجتماعية ونتائج فكر بشرى غير مقدس.
الإشكالية هنا حول هذه القضية، هى أنه فى كل الأديان يتم خلط هذا الفكر البشرى ومزجه بالنص المقدس، ويتم تفسيره والتعامل معه بالتواتر والتوريث حفاظًا على تراث الأولين على أنه مقدس، والأخطر أن له ذات العصمة والقداسة نفسها التى هى للدين والنص الديني، وهنا يحدث خلط المقدس بغير المقدس، وتقديس الشخوص غير المقدسة، وهو ما يجعل الوارثين لا يتصورون أو يقبلون أن يقترب أيًا من كان لنقد أو تحليل هذا الفكر الدينى البشري، كما أنه وبكل صراحة، ولأهمية قضية التجديد، لا بد أن نقول إن هناك من يحولون هذا التراث الفكرى الدينى البشرى القابل للصواب والخطأ إلى رأسمال ديني، إذا جاز هذا التعبير، بمعنى أن هذا الفكر الدينى يكون هو أداتهم ووسيلتهم للحفاظ على مكانة مميزة لدى التابعين للدين، الذين أيضًا توارثوا تلك الثقة المطلقة فى ناقلى وحافظى ومروجى هذا الفكر الدينى، وذاك التراث، وتصورًا من هؤلاء أن الحديث أو النقد والتحليل والفحص والمراجعة لكل ما يحتاج إلى فحص ومراجعة لتتوافق مع الواقع هو إساءة للدين وهدم لأساسه، الشيء الذى جعل المتدين والمتدينين فى عمومهم تستفزهم مشاعرهم الدينية فيكونون مساندين لهؤلاء المتاجرين والمستفيدين لبقاء الحال على ما هو عليه، وهذا يتم بمنتهى الراحة للضمير تصورًا أن هذا التمترس وراء هؤلاء هو حماية ودفاع عن الدين ذاته، وليس لأفكار بشرية يقابلها أفكار بشرية أخرى لها الحق فى الاجتهاد والتفسير. ولكن كيف يكون ذلك وهناك من يحملون تراخيص تجعلهم هم الأوصياء على الدين، وهم حماة هذا الفكر الدينى حبًا فى الدين ولأجل رب كريم؟! هذا فى الوقت الذى لا يزال وسيظل فيه الدين هو الاهتمام الأكبر والإيمان الأقوى والتمسك الشديد باعتباره المنظم لحياة البشر على الأرض، وهو الذى يمثل لهم الخلاص فيما بعد من الموت، وهذا لا يقتصر على دين بعينه ولا على عقيدة بذاتها، فهذه هى سمة كل الأديان وخصلة كل المتدينين، فالدين سواء كان دينًا سماويًا أو وضعيًا هو الدين بنفس العقيدة وذات التمسك لصاحبه، فالمسيحية بالنسبة للمسيحى هى الإسلام بالنسبة للمسلم، وهى البوذية بالنسبة للبوذى وهكذا، ذلك لأن الإنسان هو الإنسان فى المطلق، والدين هو الدين فى المطلق أيضًا.
وعلى ذلك؛ فعندما نتحدث عن تجديد الفكر الدينى الإسلامي، فى الوقت ذاته، وبالأهمية نفسها، نتحدث عن تجديد الفكر الدينى المسيحي، لماذا؟ لأن الفكر الديني، وليس الخطاب الديني، أى فكر البشر فى تفسير النص الدينى هو الذى يحدد العقيدة ويشخص الأفكار ويحشو العقول ويُكون الإحساس ويربى الارتباط بالدين ذاته، سواء كان هذا فى المنزل أو المدرسة أو المسجد أو الكنيسة، أى فى المراحل الأولى المُأثرة والمُكونة للشخصية الإنسانية فى العموم، فبالرغم من وحدانية النص الدينى المقدس، فإنه نتيجة الفكر الدينى وجدنا الاختلاف والخلاف فى العقائد داخل الدين الواحد، فما أدراك فى حالة اختلاف الدين؟
وإذا كان هذا الفكر الدينى للفرد يختلف عن الفكر الدينى للآخر، فشاهدنا تجذر الخلاف الذى وصل إلى حد المواجهات الدموية بين أصحاب الدين الواحد، وليس بين أصحاب الديانات المختلفة، وهنا بلا شك سيكون أقل النتائج وأسهلها هو رفض الآخر رفضًا مطلقًا، وفى هذه الحالة كيف يكون حال الوطن متعدد الديانات مثل مصر؟ هنا سيدفع الثمن الوطن والمواطنين جميعًا بلا استثناء، وسيكون المستفيد الأول هو عدو الوطن الذى لا يريد خيرًا لكل المصريين، وفى الوقت نفسه نعى جيدًا أن الفكر الدينى الخاطئ الذى يفرز رفض الآخر فى الإطار الإسلامى، يؤثر فى علاقة المسيحى بالمسلم، أى أن الفكر الدينى غير الصحيح هنا وهناك يتأثر به كل المصريين على اختلاف أديانهم.
هنا لا بد أن نتحدث عن إصلاح الفكر الدينى بشكل عام، وليس فى إطار دين دون الدين الآخر؛ حيث إن المسيحيين لا يعيشون فى جزيرة منعزلة أو دولة أخرى غير التى يعيش فيها المسلمون.
وهنا من الجائز أن يكون هذا نتيجة لآثار النظام الطائفى العثمانى الذى كان، والذى ما زلنا نعانى آثاره حتى الآن، ذلك النظام الذى تعامل مع هذا غير ذاك واختصر المسيحيين فى إطار كنسى خاص وأسقطهم من الإطار العام.
هنا سنسمع من كثير من المتطرفين المسيحيين، والتطرف فى كل الأديان وكل الأزمان، كيف تتحدث عن تجديد الفكر الدينى المسيحي؟!! وهل الفكر الدينى المسيحى فيه ما يتطلب التجديد او التصحيح، وهو ذلك الفكر الآبائى المُسلم من آباء الكنيسة القديسين المسوقين من الروح القدس؟ نقول نعم الفكر الدينى البشرى أيا كان يحتاج إلى إعادة قراءة، وهذا غير الرفض أو الإسقاط، فالمعانى لا بد أن تحدد، فما نقصده ليس إسقاط أو إلغاء التراث أو أقوال أو رؤى أو فتوى، ولكن نقول إعادة قراءة التراث والموروث حتى لا يتناقض الدين بقيمه العليا والأساسية مع هذه الاجتهادات عندما لا تكون بنت عصرنا المعيش، وسنواصل بإذن الله.
-----
بقلم/ جمال أسعد
كاتب وسياسي وباحث في الشأن القبطي المصري
المصدر : شباب مصر