أدبمقالاتمقالات أدبية

نجيب محفوظ : الرواية شعر الدنيا الحديثة

د. محمد عبيد الله يكتب عن نجيب محفوظ الرواية المصرية

 د. محمد عبيد الله :

قد يكون اسم نجيب محفوظ من الأسماء الشائعة في الأوساط العربية، سواء أكانت أوساط المثقفين، أم الناس العاديين الذين لا شأن لهم بالأدب وشؤونه، ومجرد شيوع هذا الاسم وألفته على الأذن العربية مؤشر مبدئي على تلك الشهرة التي تمكّن محفوظ من بلوغها، علـى مـدار عقـود طويلة، سجل خلالها ديواناً جديداً ينطوي على فرادة خاصة في الموضوع والأسـلوب، وحفّـز- مثلما هم العباقرة دوماً – قرناً بكامله على مزيد من العطـاء والحيويـة، فلـم يكتـف بنـشاطه الشخصي، وإنما حرك الساكن في الكتابة، وغير في مراتب أجناس الأدب، وجذب جمهوراً كبيـراً في مصر والعالم العربي، وشجع بإنتاجه المتميز حركة النّقد العربي، التي وجدت في نتاجه كنـزاً لنشاطها، فكان مثل جده العظيم المتنبي واحداً من المبدعين متعددي التأثير والفعالية، وغـدا بكـل هذا عنوانا أدبيا ً للقرن العشرين …فيما يستمر (في مستوى الحياة) ضيفاً أنيقاً هادئاً علـى القـرن
الحادي والعشرين، مثلما يستمر سحره الأدبي بعد أن تطور السرد العربي وتقدم نقـد الـسرديات بتأثير من عوامل متعددة قد يكون النتاج الغزير والمتميز لمحفوظ في مقدمتها، إذ وجد البـاحثون والنقاد سجلا نصيا يتحداهم ويحفزهم لتطوير أدوات النقد السردي الذي لم يكن منذ عقـود شـيئا مذكورا أو مميزا أمام سطوة الشعر ونقده.

من هو نجيب محفوظ

نجيب محفوظ، أول أديب عربي، ينال جائزة نوبل للأدب عام ١٩٨٨ ،الجائزة الأسطورية والأولى في العالم رغم كل ما يقال عن ملابسات منحها، وعمن يسيطر عليها، لكن مجرد ارتبـاط اسمه بها، نقله إلى قطاعات أخرى في العالم الشاسع، فصار اسمه مألوفاً عند القارئ الغربي، وإن بدرجة أقل من القارئ العربي، وبذلك نجح في اختراق كل الحجب والعوائق، فتم إدراج اسم يتميز بلكنة عربية، ضمن قائمة أعجمية هي قائمة الفائزين بها في حقول متعددة على مستوى العالم، من بينها حقل الأدب الذي يبدو الأكثر جاذبية وشهرة، نظراً للطبيعة الشمولية فيـه، ونظـراً لأنّـه لا يخص فئة دون أخرى، بل الناس، كل الناس معنيون به ويمكن أن يكونوا جمهوراً له…

البداية عند نجيب محفوظ

بدأ نجيب محفوظ (مواليد ١٩١١ (من حي الجمالية الذي ولد فيه، وكان ترتيبه الأخير بعد أخوين وأربع أخوات، وكما يقول بلسانه عن نشأته المبكرة:

(كان لدي إحـساس بالحرمـان مـن الأخوة فعندما وصلت سن الخامسة كان الفرق بيني وبين أصغر أخ لي خمسة عشر عاما، وأغلب حياتي في بيتنا كأنني طفل وحيد لذلك انعكس هذا في تصويري لعلاقات الأخوة في الثلاثية وبداية ونهاية وخان الخليلي).

ويبدو أن الحي الذي تتداخل فيه الطبقات كان المفتاح الأول لنجيب محفوظ ففي ذلك الحي ( كان ميدان بيت القاضي عالما غريبا تتمثل فيه طبقات الشعب المصري، فهناك أنـاس بـسطاء منهم عسكري بوليس وموظف صغير وامرأة فقيرة تسرح بفجل أو لب ،ثم تجد بيوت أعيان كبار، وبيوتا قديمة أصحابها تجار، كنت تجد أغنى فئات المجتمع المصري ثم الطبقـة المتوسـطة ثـم
الفقراء).

هذه صورة خاطفة للبيئة التي تكون فيها كما يبدو من أحاديثه مع جمـال الغيطـاني فـي كتاب ( نجيب محفوظ يتذكر ) لكنها مهما تكن غنية فلن تكون كافيـة لتفـسير أسـرار عبقريتـه الروائية والقصصية، وحسبها أن تؤشر على انغماسه مبكرا بطبقات متعددة من الشعب المصري، لعل أهمها الطبقة المتوسطة التي ولد فيها وعاش أحوالها، ولذلك تبدو أوضح الطبقات وأهمها فـي إنتاجه، ومن خلال ذلك كون كنزا من الخبرة المباشرة وظّفه في أعماله الإبداعية.

من مصر القديمة إلى القاهرة الجديدة

أما أول ظهور لمحفوظ في عالم التأليف، فيتمثل في إطلالة شبه مجهولة عندما ظهر اسمه على كتاب مترجم، يشير إلى معرفته للغة الإنجليزية، وإلى اهتمامه بمصر دون غيرهـا، ونعنـي كتابه الأول المترجم (مصر القديمة/١٩٣٢ (وبصرف النظر عن ملابسات تلك الترجمة، فيبدو أن نجيب محفوظ ظل أسير الكلمة الأولى منها، (مصر) بل إنه في رواياته الثلاثة الأولى لـم يغـادر (مصر القديمة) فكتب أعمالـه المبكـرة:

عبـث الأقـدار/١٩٣٩ ،ورادوبـيس/١٩٤٣ ،وكفـاح طيبة/١٩٤٤ ،التي حاول فيها استنادا إلى وقائع التاريخ المصري القديم بنـاء روايـة تاريخيـة بدلالات لا تفتقر إلى المعاصرة، لكنها أيضا لا تبتعد كثيرا عما أنجزه السرد العربي فـي بداياتـه التاريخية كما عند جرجي زيدان أو غيره ممن اختاروا هذا النمط من السرد واشتهروا به.

مصر في أدب محفوظ

وكلمة (مصر) التي وردت في عنوان كتابه المترجم الذي ظهر في شـبابه المبكـر عـام (١٩٣٢ (ظلت المفتاح الأساسي لكل منجز نجيب محفوظ، بل إنه قصره على القاهرة وحدها، مـع تحوله من مصر القديمة إلى مصر الجديدة، في روايته التي نشرها عام ١٩٤٥ المعروفـة باسـم (القاهرة الجديدة)، مع التذكير أن مجموعته القصصية الأولى (همس الجنون) قد ظهـرت مبكـراً
كأول إطلالة أدبية له عام ١٩٣٨ .وقد تميزت باستيحاء أحوال الطبقة المتوسـطة مـن مـوظفين ومثقفين وتجار وما أشبه ذلك، ولكن أهم ملمح فيها يتمثل في اللغة المحفوظية التي تتهيأ للخـروج على منطق البيان التقليدي، لتنتقل إلى لغة حية نابضة، تستطيع أن تعبر عن الأنماط البشرية التـي تصور ها.. ومع أنه في (همس الجنون) لم يغادر كثيراً من القوالب الجاهزة ولم يقطع العهد تمامـاً مع اللغة البيانية (التي ازدهرت عند الرافعي والمنفلوطي ومحمود شاكر وغيرهم) لكـن القـارئ
يحس بقلقه تجاه اللغة ورغبته في تطويعها لمنطق السرد وحاجاته، لا أن يطوع هو موضـوعاته لتلك اللغة المرصعة بالبيان والبديع.

صراع نجيب محفوظ وعباس العقاد

ونلتفت في المرحلة المبكرة من مسيرته إلى ما كتبه في العدد الثالث من مجلة الرسالة ردا على أديب مشهور هو عباس محمود العقاد في مقالة قلل فيها من قيمة القصة لصالح فن الـشعر، وجاء في رد نجيب محفوظ وفق ما أورده جابر عصفور:

( لقد ساد الشعر في عـصور الفطـرة والأساطير، أما في هذا العصر ، عصر العلم والصناعة والحقائق فيحتاج حتما لفن جديد، يوفـق على قدر الطاقة بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق وحنانه القديم إلى الخيال. وقد وجد العـصر بغيته في القصة، فغدا تأخر الشعر عنها في مجال الانتشار ليس لأنه أرقى منها من حيث الـزمن، ولكن لأنه تنقصه بعض العناصر التي تجعله موائما للعصر، فالقصة على هذا الرأي هـي شـعر الدنيا الحديثة).

وقد تمكن محفوظ نفسه بهذا الفهم المبكر للعلاقة بـين أجنـاس الأدب وطبيعـة العـصر ومتغيراته من تحويل السرد إلى شعر الدنيا الحديثة، ليصير السرد هو الفـن المعبـر عـن روح العصر الجديد وأزماته وتحولاته، ولم تقتصر إنجازات محفوظ على صعيد إنجاز الـنص وحـده لكنه نجح مع هذا الإنجاز في خلق جمهور واسع هو الأمة العربية بأسرها لتكتشف جاذبيـة هـذا
الفن وليصير على يدي محفوظ وزملائه ديوان العرب الجديد، وبذلك يمكن اعتبار محفوظ واحـدا ممن صنعوا الذوق الحديث وأثروا فيه تأثيرا بليغا ما زال مستمرا إلى اليوم.

رواية زقاق المدق والتحول إلى الواقعية والمكانية

مع رواية القاهرة الجديدة، يبدأ محفوظ عهداً مغايراً، حيث ينتقل إلى ذلـك العـالم الـذي لامسه في بعض قصص (همس الجنون) لكن مع تركيز أوضح على المكان، وبالرغم مـن شـدة وضوح الشخصيات في هذه المرحلة، فإن المكان يبدو هو البطل، وهذا ما ينسحب علـى (زقـاق المدق) و(خان الخليلي)،وما يشبههما من روايات واقعية، فمحفوظ في هذه المرحلة ينطلـق مـن مكان محدد شبه معزول، لكن الرواية تحوله إلى مكان ممتلئ بـالحراك، وتنـدفع لتكـشف عـن علاقاته الداخلية وعن تحولاته التي ترتبط بتأثيرات من الخارج لكنها تفعـل فعلهـا فـي عالمـه الداخلي.

ولو وقفنا وقفة خاطفة عند (زقاق المدق) لوجدنا (محفوظ) يرسم في مفتتح الرواية مشهداً للزقاق الصغير الذي (يكاد يعيش في شبه عزلة عما يحدق به من مسارب الدنيا) ، وتتقـدم هـذه الصورة المكانية الأليفة على أي عنصر آخر،ثم يختار زمن الغروب ليكون أول لحظـات رسـمه وتقديمه، والزمان هنا ليس إلا مؤشرا على تلاشي المكان وبدايات أفوله وتغيره رغـم مظـاهره الانعزالية: ( آذنت الشمس بالمغيب، والتف الزقاق في غلالة سمراء من شفق الغـروب، زاد مـن سمرتها عمقا أنه منحصر بين جدران ثلاثة كالمصيدة، له باب على الصنادقية ثم يصعد صـعودا في غير انتظام، تحف بجانب منه دكان وقهوة وفرن، ويحف بالجانب الآخر دكان ووكالـة، ثـم ينتهي سريعا _كما انتهى مجده العابر _ببيتين متلاصقين، يتكون كلاهما من طوابق ثلاثة).

هذا المكان المحدود الضيق تحول في الرواية إلى مكان بديع يـضج بالحيـاة والجاذبيـة، وغدا مثالا لصراعات المجتمع وتحولاته بوجود الاحتلال الإنجليزي، وقـدم محفـوظ فـي هـذه الرواية مثالا سرديا يغتني بروائح المكان وتفاصيله الصغيرة، وقد تحول ذلك الزقاق الصغير إلـى مكان عالمي أحيته الرواية وحافظت عليه ضمن مقتنيات الذاكرة المصرية والقاهريـة ، وصـار الزقاق معروفاً بكل لغات العالم الحية،يأتي الناس من الشرق والغرب للبحث عنه لعلهـم يجـدون أثرا لحميدة أو عباس الحلو أو قهوة المعلم كرشة، خصوصاً بعد نوبل ١٩٨٨ ،التي حولت قـاهرة محفوظ إلى مدينة عالمية تمتلك سحرا متجددا، يضاف إلى سحرها التاريخي الأصيل.

وفي (زقاق المدق) كما في روايات المرحلة الواقعية ذات البلاغة المكانية، تلـك اللغـة السردية الخالصة، التي لا تتأتى بلاغتها من طبيعتها اللغوية، بل ما حبكتها ومن طبيعـة العـالم الذي تصوره وتنقل تفاصيله، إنها بلاغة سردية خالصة لا تقترض البيان اللغوي اللفظي بل تزهـد في ذلك لأبعد حد، وربما يفاجأ القارئ غير المحترف بذلك التقشف اللغوي الذي يوهم بفقر اللغـة
وبساطتها المتناهية، لكن هذا المظهر هو ما يتيح المجال أمام بلاغة السرد الصافية فـلا تبـددها اللغة أو تقلل من تركيزها وسطوتها.

هل يمكن أن ينسى القارئ حميدة، بنت الزقاق، وهي تحاول أن تفـر منـه نحـو العـالم الآخر، المضاد لعزلة الزقاق، وهل يمكن أن يمتنع عن تأويل هذه الشخصية الواقعية التي يمكـن لها أن تتحول إلى شخصية رمزية رغم كل ثقلها الواقعي؟؟؟ وكذلك هو حال عباس الحلو، والشيخ درويش وعم كامل، والمعلم كرشه وابنه حسين وغيرهم من شخصيات…كذلك نجد فيها المقهى أو  القهوة كمكان أثير عند محفوظ، مما يبرز بلاغة هذا المكان، في الرواية وفي المدينـة-القـاهرة ، إنه مكان للتجمع وللصدام وللتحول، كأنما هو بؤرة جذب لمختلـف الـصراعات التـي تـصيب المجتمع، وتجد صورتها التعبيرية في المقهى.

اقرأ أيضا :

عشيقات العقاد , في وصف هوى العقاد

أيمن العتوم من الهندسة إلى الأدب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

قم بإيقاف اضافة حجب الإعلانات لتتمكن من تصفح الموقع