أخبارأقلام حرةمقالاتمقالات مختارة
كتب ونيران بقلم حاتم ابراهيم سلامة

مقالات- أقلام حرة -حاتم إبراهيم سلامة :
كان مشهد النيران وهي تلتهم كتب صديقي عملا مرًا لا يحتمله القلب، لكنني استطعت الشعور به والإحساس بمرارته، لحبي للكتب ومعزتها في قلبي، وقد أقدم على هذا العمل رغم أنفه، حينما اضطرته بعض الظروف في بعض الفترات الزمنية الماضية أن يحرق بعض الكتب التي لا تناسب الوقت أولا يقبلها الزمان.
وأخبرني صديق آخر:
أنه لم يكن يستطيع أن يرد على استفزازات إخوته في خلافاتهم معه وهم صغار، لأنهم كانوا يهددونه دوما بحرق كتبه إن أغاظهم، أو أوغل في كيدهم، لمعرفتهم مكانتها في نفسه، فلم يكن منه إلا أن يتراجع ويتسامح أمام هذا التهديد الذي لا يتحمله قلبه ولا كبده ولا أي شيء في جسده، لعشقه لكتبه.!
لقد كانت النيران طريقا ومنفذا ونجاة لمن يمتلكون كتبًا لا ترضى عنها الأنظمة وتعاقب من يقتنيها، وتلبسه تهمة خطيرة إن وجدوها في بيته وعلى رفوف مكتبته، بل تجد في بعض البلدان، أن بعض الكتب كفيلة أن تجلب لصاحبها ومقتنيها حكم الإعدام لو وجدوها في مقتنياته.
وأمام هذا المصير الموحش تعد النار من أنجح الطرق للهروب من شبح هذه العقوبة، وهذا المآل الخطير، لأنها لا تبقي من سطورها ولو حرفا واحدا يمكن أن يجر على صاحبه وبالا متوقعا.! فلا الإخفاء ينفع ولا الدفن يقنع.!
حرق الكتب
وإذا كانت النار حلول الخائفين والضعفاء لكتبهم، فإنها كذلك كانت حلول الأقوياء الذين يتصورون أن اللهب يقضي على الفكر ويحجب ضوءه.
وهي نظرة قاصرة ضعيفة، فقد أحرق هتلر كتب المفكرين الذين لا يرضى عنهم، وفي النموذج الإسلامي أحرق المرابطون كتاب الغزالي، والموحدون كتب ابن رشد.
وأسلوب الحرق ما هو إلا عملية تعبير وخيال واهم، يمني النفس بما تهواه من القضاء عليها وعلى أفكارها، ولكن الحقيقة أنه لا شيء يزول، ولا تتحول الأفكار أبدا إلى رماد، مهما عظم اللهب واتسعت خنادقه.!
كنا نستعظم أن يحرق القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه، حينما استخرج المصحف الجامع وأحرق ما دونه، ولأن الحرق سلوك بشع عنيف ولا يكون إلا جزاء للأشقياء، فلم نستسغ الأمر حتى جاء شيخنا في كلية أصول الدين ليقول لنا : (بل السنة الحرق في القرآن) وعليه كلما وجدت مصحفا باليا لا يمكن إحياءه خشيت على آياته من الامتهان فأقوم بحرقه بنفس راضية وعقل قانع.
وإذا كان هؤلاء المبغضون قد قدروا على هذه الكتب وأشعلوا فيها النيران، فإن هناك في قصص المحبين من قدرت عليهم الكتب وكادت أن تتسبب في حرقهم وحرق بيوتهم، في صورة مختلفة معاكسة لسلوك المبغضين، ليكون حالهم على حد تعبير القائل: ومن الحب ما قتل!.
كان توفيق الحكيم يهرب بكتبه الأدبية التي لا يرضى عنه والده، ليقرأها تحت السرير في عتمة الظلام، ويصطحب معه شمعة تضيء له ما أمامه من صفحات الكتاب وسطوره، ومرة أصابه الفزع حينما ناداه والداه ليتناول الغذاء ، فخرج مسرعا من تحت السرير، وترك شمعة كأننها أسد نائم أو نار تحت الرمان توشك أن يكون لها ضرام، لقد ترك الشمعة في صحبة الكتب، وبعد يسير من الوقت، سمع جلبة وأصواتا في الشارع، ودعاوات لإطفاء الحريق، ولم يتبادر للأسرة أبدا أن الحريق في بيتهم، وفي الحجرة التي خرج منها الصغير من وقت يسير، وكأن الشمعة قد عز عليها أن تظل وحيدة فغضبت وأحرقت السرير وامتدت نيرانها لحرق الحجرة كلها، ونال بسبب ذلك علقة ساخنة لا ينساها أبدا.
وهذا حزء من تاريخ العلاقة بين النار والكتب!