
للقدر رسائل مشفرة
هكذا اختار الكاتب أمير العزب عنوانا لمجموعة من القصص احتار في وصفها الكاتب والسيناريست المعروف شريف عبد الهادي في المقدمة التي استهل بها هذه القصص:
هل هي مجموعة قصصية كما عهدنا أم متوالية قصصية؟ باعتبار وجود رابط بين شخوص هذه القصص
وقد احترت في حيرته فأول ثلاث قصص من الستة التي حوتها دفتي الغلاف المميز بدا لي كل شيء طبيعيا . لاحظوا أن هؤلاء الثلاثة يمثلن نصف المجموعة عددا وليس حجما أو ورقا . والرابط بين الشخوص لم يظهر بعد .. ثم كانت المفاجأة .. لقد وقعنا في الفخ، لقد خدعنا الكاتب واستمر يسرد وكأنه لم يلهو بنا في أول الأمر .. فكيف حدث ذلك؟
بدأ أمير قصصه بقصة بعنوان “ماما”
(عنوان تقليدي ويشي بمحتوى تقليدي )
لكن بما أنها القصة الأولى وفيها يتم التعارف بين القاريء والكاتب لم أجد بدا من الاستمرار في القراءة مفتشا عن الجديد الذي سيقدمه أمير العزب في تناول الحكاية
بالفعل كان السرد من منظور الأبن البكر الذي وضعته الاقدار موضع المسئولية تجاه الموقف العصيب الذي تعرضت له أمه لقد برع أمير في وصف الرقة التي يحملها قلب “البكر” ولحظات ضعفه التي تتسرب من ساعات صموده
وتأتي القصة الثانية وهي بعنوان “قشرة موز”
للقدر أفاعيل أغرب من الخيال ويستعصى على العقل تقبل إمكانية حدوثها .. عندما قرأتها قلت في نفسي “لالالا أوفر أوي ” ولكن هكذا هو القدر يأتي أحيانا بصورة أغرب من الخيال ويستحيل على العقل تصديقها ففي غمضة عين قد يتغير حال المرء لسبب يبدو تافها كقشرة موز او ورقة لا قيمة لها ولكنه نقطة تحول كبرى
ثم تأتي القصة الثالثة وهي بعنوان “سفاري”
وهنا تبدأ المتعة وهنا يدق ناقوس الفرح .. قصة كئيبة ولكني فرحت بها كقاريء لما امتلئت به تلك القصة من كل ما تتمنى النفس، إثارة، تشويق ، حيوان خفي له صوت جمل. نكات وسخرية، مغامرة، عواصف، غموض . جمل حقيقي .. ثم الموت والحياة لعبة القدر المفضلة
لقد كان أمير ساحرا في تلك القصة التي بدت كفيلم سينمائي مشوق وممتع
انتهت القصة الثالثة التي بدأت عندها متعتي الشخصية كقارىء وقلت في نفسي يبدوا أن الكاتب يتدرج في القوة وبالتالي فالقصص المتبقية أقوى فأقوى فأقوى..
القصة الرابعة أو الشفرة الرابعة وهي بعنوان “تاكسي”
(كل قصة حملت وصف الشفرة باعتبار ان قصص الكتاب ليست سوى شفرات قدرية في حياة أبطالها)
وحيد سائق تاكسي عادي يبدأ يومه العادي بطريقته الاعتيادية حيث يتناول طبق فول من احدى العربات جاءه محمولا في صينية مغطاه بورق جرائد ورغم انها جرائد سابقة ولكن عيناه وقعت على حظك اليوم والذي كان ينصحه بأن يصدق مشاعره لا عقله . لتبدأ بعد ذلك مغامرة تحبس الأنفاس مع فتاة جميلة
وهنا تبدأ مغامرة قوية وفي نفس الوقت تلمح شخصا يبدو وكأنه كان يجب في تلك اللحظة أن يكون أحد شخوص قصة “ماما” .. نعم الشفرة الأولى وان هذا المشهد كان يجب أن يكون هناك !!
حسنا .. بدت لي محاولة جيدة وحرفية تحسب للكاتب
وتأتي القصة الخامسة تحت عنوان “هنجر الموت”
والتي سيرى فيها القارى مدى التداخل بينها وبين القصة السابقة والتي لم تقل عنها إثارة ثم فجأة تتداخل القصة مع سابقتها ويسيران متوزايان في الاحداث!!
وتأتي القصة السادسة والأخيرة “الجثة ٢١٢”
لا انصح بقرائتها ليلا ، القصة مرعبة .. ومخيفة
ليس هذا فقط .. بل كل ما مضى من إثارة لم يكن سوى ما يظهر على السطح من الجبل . ولنقل مثلا ١٠% مقارنة بما وضعه أمير في القصة الأخيرة ٩٠% من الإثارة والمتعة .
جرعة شديدة التكثيف بطلتها تلك العجوز الشعثاء الشمطاء التي بدت كساحرة في القصة الرابعة “تاكسي”
ثم فجأة تجد جميع ابطال القصص الستة حاضرون معك .. ليس بطريقة الاسترجاع ولا بطريقة الإخبار .. بل كشخوص حية ..
لتكتشف في النهاية أن الست قصص كانوا يسيرون معا بالتوازي
وهنا أعود للكاتب والسيناريست الواعد شريف عبد الهادي لأتفق معه انها ليست مجموعة قصصية معتادة ولا متوالية قصصية فما رأيك لو أسميناها “متوازية قصصية”؟!
نعم .. إنها بهذا الشكل المتوازي المتشابك ليست سوى رواية أو عمل يجمع بين فن الرواية وفن المعالجة السينمائية من خلال فكرة سيناريو
فالبطل في قصته هو شخص في قصة بطل آخر كان بدوره شخص في قصة البطل الأول ..
لذلك لست أراها سوى رواية متعددة الرواة متعددة الابطال وليست مجموعة قصصية
أسلوب الكتابة
اسلوب الكاتب في قصصه بالفعل بدا روائيا فكل قصة حملت العديد من الأحداث والمشاهد والانتقالات كاسرا بذلك قاعدة الحدث الواحد حتى أن كل قصة بدت كقصة طويلة او رواية موجزة أو معالجة سينمائية لسيناريو سيتم كتابته خاصة وأن الكاتب بدا متأثرا بالفن المرئي
نلاحظ ذلك في أن خمس قصص من الستة بدأت بذكر المكان . مكان الحدث
في المستشفى , في الاسكندرية , في نزلة السمان, في هنجر , في المشرحة …الخ
اللغة :
أمتازت لغة الكاتب بالرشاقة والسلاسة حتى أنه في قصة ماما استخدم لفظ “استرضيتها” أي طلبت رضاها.
وفي قصة أخرى استخدم لفظ “الملاحف” جمع لحاف .
فراق لي أنه يجتهد ليكون سلسا ولكنه فاجئني لاحقا بألفاظ مثل “يكبكب” النار ، “خضخضت” … ، “بَكَمَ” وانتظر
كما أنه اقحم وصف عصى “بيسبول” ولا أعلم هل وجودها اعتيادي مع سائقي التاكسي أم هل هذا تأثر الكاتب بالأفلام الغربية ؟
ورغم ما تمتع به الكاتب أمير العزب من قدرة على استخدام الكلمات إلا أنه كان هناك قصور في بعض الانتقالات من حدث لحدث
حيث فاته استخدام الكلمات التي تنقلنا معه للحدث التالي وكأنه نسي أنه يمسك قلما لا كاميرا يتنقل بالصورة بين الاحداث .. على العموم كانت مرات تعد على اصابع رجل البطة ..
نعم لا يزيدون عن ثلاثة تقريبا
على كل حال فإن أمير -في رأيي – كان يدرك إن الامتاع بالمفردات ليس همه الأول فهناك من هم أكثر براعة منه في العزف على المفردات لذلك اختار ميدان المنافسة في المحتوى الذي يقدمه .
في “الصورة” التي يرسمها .. فربما يستخدم النحات أو الرسام أدوات بدائية كمن يرسم بالرمل مثلا ولكن العبرة بالصورة النهائية بعد اكتمال العمل
لا أقول أن أمير كانت لغته سيئة، على العكس بدت رشيقة سلسة ولكن لا شيء فيها يلفت النظر عن ما أرادنا هو أن نلتفت إليه
بقي أن أقول أنه لفت نظري طوال القراءة خلو الكتاب من الأخطاء اللغوية التي اعتدناها للاسف مؤخرا بسبب أن دور النشر التجارية تبحث عن الأقل سعرا ولو على حساب الجودة وكل صفحة أذكر نفسي أن أحاول معرفة المدقق حتى تنبهت إلى أن اسمه مذكور في ترويسه الكتاب وإذا به العملاق “محمد عبد الغفار” ..
الغلاف :
كذلك الغلاف جاء معبرا جدا بالساعة التي تحوي شخوصا في حالة حركة وتفاعل (حالة حياة).
اقرأ أيضا : الكاتبة سلوى محمد “لأن صوتي عورة كتبت” كتاب جديد
بالنهاية استمتعت بها كثيرا فالكاتب في حرفية شديدة قدم ألوان كثيرة رومانسية وأكشن ومغامرات وقدم الرعب كل ذلك رسمه ببراعة وتشويق ويحسب له أنه كان متمكن من كل هذه الألوان الأدبية.
الرواية من إصدارات دار حابي للنشر والتوزيع ومتوفرة بالمكتبات كما ستشارك في معرض القاهرة الدولي للكتاب 2022
أحمد الأسيوطي