
مقالات – أقلام حرة – حاتم سلامة :
آتوني بأديب لم يقرأ له؟ ولم يؤثر فيه ولم بعترف أن له فضل عليه وأنه كان شغوفًا بكتاباته، آتوني بمعلم لم ينصح طلابه وهم يتعلمون الإنشاء، أن يقرؤوا له حتى تلين عباراتهم وترق ألفاظهم، وتتحلى كلماتهم برقي البيان وصور البلاغة.
إنه (مصطفى لطفي المنفلوطي) الذي لم يكن غزير التأليف، لكنه ترك بما ألف من نزر يسير، بصمة مؤثرة لا في الأجيال التي قرأت له حال ظهوره فقط، وإنما في الأدب العربي كله على مر عصوره وأجياله، فإلى هذه اللحظة يتوجه كل من أراد أن يتعلم كيف يكون أديبا أو كاتبا، إلى نصوص المنفلوطي التي لا ترقق أدبه فقط، وإنما يسبقه تأديب الحس والشعور والوجدان.
كان والدي رحمه الله يقولي لي كنا ونحن صغار نتعلم في طنطا، فإذا ما انتهينا من المدرسة، توجهنا للمكتبة العامة، لقراءة العبرات والنظرات، وكنا نجدها بالية مهترئة من كثرة ما تمسكها أيدي التلاميذ، ويقبل عليها طلاب الأدب والبلاغة وفنون الإنشاء.
وكذلك أنا ومن خلال هذا التوجيه، كنت واحدا من الذين قرؤوا للمنفلوطي في صغرهم، قرأت الفضيلة، والعبرات والنظرات وفي سبيل التاج وماجدولين، تعلمت كيف يكون الإنشاء؟ واستقيت من معين اللغة وتعبيراتها وصور بيانها، مما ساعد وساهم في تكون ذوقي الادبي الخاص بي.
بكيت وتألمت وعشت لحظات من مناخ الأحزان التي ساهمت في تنمية إحساسي وشعوري بآلام الآخرين،والإحساس ببلاء المبتلين.
كان أدب المنفلوطي يأتي في الدرجة الثانية بعد أدب التراث وكتبة الضخمة العظيمة، بل كان على حد تعبير نجيب محفوظ محطة المنفلوطي أو مرحلة المنفلوطي.
ولست أبدا مؤيدا للأستاذ العقاد في نقده للمنفلوطي، ولا أعد هذا النقد إلا من قبيل الغيرة للشهرة َالمكانة التي نالها.
كما ندم طه حسين أشد الندم حينما كبر ونضج على هجومه على المنفلوطي وأدبه إلى حد الوقاحة، وكان يخجل كلما تذكر هذا التهور.
قدر لهذا الزعيم الأدبي أن ينصرف الناس عنه يوم وفاته فلا يشيعونه أو يقبلون على وداعة، لأن هذازاليوم قد حدثت فيه كارثة هزت المجتمع المصري كله، حينما أعلن أن سعد زغلول تعرض لإطلاق نار، فهرع الناس إلى الزعيم سعد وتركوا زعيم الأدب لا يودعه أو يشيعه غير أهله.
لكن أمير الشعراء لم يفوت المناسبة، وشرع بشعره يسجل فاجعة موت المنفلوطي، وإعراض الناس عن إداراك مصاب الامة فيه فقال في أبيات ما أحلاها وما أبهاها:
اخترت يوم الهول يوم وداع** ونعاك في عصف النعاة الناع
هتف الدعاة ضحا فأوصد دونهم** جرح الرئيس منافذ الأسماع
من مات في فزع القيامة لم يجد** قدما تشيع أو حفاوة ساع
رحم الله المنفلوطي الذي إن شئت فقل صاغ خلقا، وشعورا وحسًا قبل أن يصيغ أدبا.
رحم الله من قال:
ما كنت أكتب للناس لأعجبهم، بل لأنفعهم، ولا لأسمع منهم: أحسنت، بل لأجد في نفوسهم أثرًا ممّا كتبت…