أقلام حرةمقالاتمقالات أدبية

حاتم سلامة ومحنة الذوق العام

أقلام حرة – حاتم سلامة :

أذكر أنني لا أحب غناء الست أم كلثوم، ولا أحب صوتها ولا أتناغم معه، اللهم إلا في النذر اليسير من بعض أغانيها الوطنية.

ولكن يالا داهية الدواهي، لو أعلنت هذا الرأي ورددت هذه المشاعر، فهناك ألسنة ستتهمني بقلة الذوق ورداءة السماع، والجهل في فهم الغناء الأصيل، وربما اتهمني بعضهم بأنني مختل العقل لا أفهم أي شيء، ومن ثم لابد أن أكتم هذا الرأي في نفسي، حتى لا أجافي الذوق العام. الذوق العام يقر ويعلن أن عبد الناصر زعيم وملهم بطل عظيم ومنقذ المصريين، بينما رأيي أنه طاغية جبار وزعيم مهزوم، لكنني بين الجماهير أخشى الإعلان عن هذا الرأي، لأنه سيناقض الذوق العام الذي شكله الاعلام وأحسته الجماهير التي لا يحكم الوعي والعلم والمعرفة حياتها، أو يسير عقولها. عانينا كثيرا ونحن نوضح للأمة أن طه حسين كان في فكره ومؤلفاته حربا على الله ورسوله، ولكن للأسف لا يصدقنا الناس ويناطحوننا في إعلاننا، لأن الذوق العام والثقافة العامة التي شكلتها الدولة، تقضي بأن طه عظيم من العظماء وأديب الأدباء، وأن أي إنسان يهاجمه أو ينتقده عدو للعقل والعلم، بل وربما متطرف الفكر، إرهابي المزاج.!

منذ أيام كتبت جملة آمنت بها، ورأيت فيها ميزان العقل الكامل، وكانت كما قلت فيها:

(كما يوجد شيء اسمه اختلاف الأذواق، كذلك يوجد شيء اسمه الذوق العام) ولقد كنت أشير بهذه الجملة إلى صراع كبير نجده في الحياة، بين وجهات النظر المختلفة والآراء المتباينة، وأنه مهما كان اختلافها، إلا أنها لابد أن تخضع أو تراعي ما يُسمى بالذوق العام. ولكني حينما أعملت الفكر، وجدت أن القضية أخطر وأكبر من ذلك بكثير، فلقد كنا ننادي أن يكون المرء حرًا في رأيه وتعبيره ونظره، لا يرهب شيئا ولا يخشى معترضا، ولا يهاب ناقدًا، ولا يعير مخالفا أي اهتمام، فالمهم أن يعبر عما يجيش في صدره من آراء ووجهات نظر وميول وأهواء. ولكن قبل أن يكون حرًا بهذا المعنى، يجب أن يعرف أنه حينما يصطدم رأيه مع الذوق العام، فإنه سيجر على نفسه ويلات وويلات، بل موجات وموجات من النقد والذم والتسفيه والتقليل.. حتى وإن ناصره البعض، فلن يغنوا عنه شيئا، أو يدفعوا عنه تهمة، لأن الذوق العام له سطوة طاغية وهالة جاسمة، والذين يناطحون الذوق العام ولا يسمحون له أن يعوق أو يكتم أو يحجز آراءهم، لا أعرف هل أصفهم بأنهم أحرار، أم أتهمهم بأنهم يفتقدون الحكمة؟! والذين ينسجمون مع الذوق العام ويكبتون نظرتهم للأشياء خوفًا منه، لا أعرف هل أتهمهم بأنهم جبناء أم أصفهم بأنهم حكماء؟! ربما تؤمن ويؤمن معك فصيل كبير بأن العقاد أسلوبه معقد وخال من الروح وفيه تقعر شديد، لكن من الأفضل أن لا تُعبر عن هذا أو تصرح به، خشية أن يصطدم مع الذوق العام، الذي يقرر أن العقاد عملاق، من الجيد وأنت تشعر أن كتب محمد أحمد الراشد ثقيلة على النفس، وأسلوبها مُشتت، أن لا تعبر عن هذا الشعور، وإلا أخرجك قومك عن الملة، لا لأنك نقدت أسلوب كاتب، ولكن لأن هذا الكاتب محسوب على تيار ديني. مجتمعاتنا دائما تقيم وزنا وهالة للذوق العام، ولا تسمح لأحد أن يخترقه أو ينقلب عليه في شيء، حتى في عقول المثقفين الذين يفترض أنهم أحرار الفكر، إلا أن طبيعتهم المجتمعية التي نشؤوا عليها لا تفارقهم، حتى لو كانوا فلاسفة. أما المجتمعات الغربية فإن لها انطباعا آخر فلا شيء يعترض حريتك ورأيك وفكرك وحتى شذوذك، لأن الحرية لها قدسية أقوى من قدسية الذوق العام. في بعض المؤسسات لا تستطيع أن ترتدي ما تريد من لباس تشعر فيه بالراحة والانبساط، لأن الجو كله في مناخ رسمي يفرض عليك الانضباط بالبدلة ورباط العنق، وهو الذوق العام الذي يحرمك حتى من راحة الجسد.
ثم هناك نقطة مهمة وهي فساد الذوق العام وصلاحه، فليس معنى أنه الذوق العام لغالبية المواطنين أنه يكون الحق والصواب.
لأن هذه الجماهير العريضة يمكن جدا أن يكون قد شيدت ذوقها وتكونت عناصره على باطل وجهل وخطأ.. ومن ثم يعافها الذوق السليم، وهذا ما تراه في القطاع العام والطوائف الشعبية من الناس التي تستلذ بأغان هابطة وتقوم على الضجيج والكلمات القبيحة السيئة، ذلك لأن ذوقهم العام أقامهم مناخه على تقبل هذه النوعية من الكلمات، وأهل آذانهم لسماع هذا اللون من الموسيقى.. والتي لا يمكن أبدا لصاحب الذوق السليم أن يشعر معها وفيها بأي متعة أو لذة وانسجام.
إن الذوق العام محنة كبيرة لذوي العقول، إما أن يجارونه أو يعترضون عليه، وفي كلا الأمرين شر، فالأولى يعاني المرء من وأد حريته، والثانية يعاني المرء من سفه المعترضين وطعن الطاعنين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

قم بإيقاف اضافة حجب الإعلانات لتتمكن من تصفح الموقع