أقلام حرةمقالات دينيةهذا ديننا

الحجاب من عادة مباحة إلى عادة متعبد بها

الحجاب عادة أم عبادة؟

كتب أحمد الأسيوطي :

مقدمة لابد منها :

حقا أن التشريع الإسلامي يلتبس على كثير من المتفقهين فضلا عن غالبية الناس من أمة الإسلام وغيرها

وذلك مرجعه إلى الخوف من الدخول في مواجهة مع النص المقدس , مواجهة يكون فيها الطرف البشري هو الخاسر

فمن ذا الذي يجرؤ على التعرض للنص الإلهي بمشرط الجراح فيقطع ويخيط كما شاء له الإجتهاد !

ولكننا لدينا من الجرأة في ذلك ما يخشاه الكثيرين تلك الجرأة التي أكتسبناها من الفاروق عمر بن الخطاب مؤسس الدولة الإسلامية

فحين اتسعت رقعة دولة المسلمين احتاجوا إلى أحكام جديدة لواقعهم الجديد فعمد عمر بن الخطاب إلى “مشرط الطبيب” وقص وخاط كما يحلو له الإجتهاد المصلحي.

وكأن عمر بن الخطاب فهم جوهر التشريع وهو “الحفاظ على الإنسان” وليس “الحفاظ على النص”

فالإنسان كما يقول الصادق النيهوم هو المقدس عند الله وهو قدس أقداس الدين وليست الكعبة !

ومن ثم فغاية التشريع الإلهي هو تحقيق مصالح الناس وأولويته في ذلك الحفاظ على الانسان ومراعاته على حساب النص

ولعل إشكالية الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم هي خير دليل على أن الله كان يشرع أحكاما مؤقته يستبدلها بأخرى على سبيل التدرج تحقيقا لمصلحة الناس (كالخمر مثلا)

أو يلغيها .. أو يخفف منها ” الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا .. ” الانفال 66

إذن فالتشريع الإسلامي تشريع مرن وهو يسير موازيا للمصالح الإنسانية فهو مرة يفرض على الناس فريضة ثم ينسخها

مثل الوصية للوالدين نسخت بلا وصية لوارث ( الشافعية والحنفية يجيزونها اذا أجازها بقية الورثة)

ومرة يفرض فريضة ثم يخففها مثال : “

الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ الانفال 66

وهي تخفيف من الحكم : ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين)

جاء في الطبري عن عطاء في قوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين)، قال: كان الواحد لعشرة, ثم جعل الواحد باثنين; لا ينبغي له أن يفرَّ منهما.

ومرة يفرض فريضة ويتركها للناس ليضعوا تفاصيلها مثل فرضه نصيب للنساء في الميراث (اية 7 من سورة النساء)

“للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قلَّ منه أو كثر نصيبًا مفروضًا”

وكان هذا قبل تحديد الأنصبة وذلك أن المسلمون توقفوا في توزيع التركة وأختلفوا في الأنصبة

فأنزل الله وبين لكل وارث نصيبه في التركة

وهناك فريضة محرمة جاءت الضرورة فجعلت الله سبحانه يستبيح ذلك المحرم لهول النتيجة المترتبة على الظرف الطارئ

مثال : القتال في الأشهر الحرم

(( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ))  البقرة 217

فخشية الوقوع في الفتنة جعلت الحرام وهو القتال في الشهر الحرام مباحًا

ومن خلال تلك المقدمة يتبين لنا مرونة التشريع الإسلامي وموازته ومسايرته لمصالح الإنسان

وقد تغلغل التشريع (بخصائصه المرنة المتجاوبة) في كافة مناحي الحياة بدء من الطهارة والغسل حتى القتال والوقوع في الأسر

ولكن .. هل الطهارة كالقتال ؟

بأسلوب آخر : أي أحكام التشريع الإسلامي يكون مرنا وأيها يكون جامدا ؟ وكيف نميز بين المرن والجامد؟

قبل الإجابة نقول أننا يجب أن نميز بين العبادات والطقوس وبين المعاملات

لأن العبادات يرد عليها العذر وهنا قد يظن أحد أن تلك مرونة ولكنها ليست بمرونة وذلك لأن العذر مجرد ناقل ينقلنا إلى حكم آخر منصوص عليه قبل وقوع العذر كافطار المريض والمسافر

ثم ينتهي العذر فنعود للحكم الأصلي

أما المعاملات فهي التي يصح فقط أن نصف تشريعاتها بالمرونة لأنها قابلة للتبديل حسب كل حال وزمان ومكان دون معرفة ما سيصير إليه الحكم قبل حصول التغير الذي يستدي أن يكون النص مرنا

الأحكام المعللة

يمكننا وضع معيار آخر للتمييز بين التشريع المرن والتشريع الثابت ومعيار “التعليل” فالأحكام المعللة مرنة والأحكام غير المعللة غير مرنة

والأحكام المعللة جميعها في التشريع الإسلامي هي  أحكام “المعاملات” وتنظيم أمور الناس المعاشية

أما الأحكام غير المعللة فهي الأحكام التعبدية وهي في العبادات التي أوجبها الله علينا دون أن يعرفنا العلة وراء هذا الإيجاب فلماذا الطواف سبعا مثلا ؟!

والأحكام المعللة أحكام مرنة بطبيعتها لأنه حسب تعريف علماء أصول الفقه “الحكم المعلل يدور مع علته وجودا وعدما”

فإذا انعدمت العلة انعدم الحكم

والعلة أما تكون ظاهرة في النص وأما تكون خفية يمكن التعرف عليها من الواقع أو طبيعة الحال

مثال : الأمر بكتابة الديون (( اذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فأكتبوه)) البقرة 281 كوسيلة من وسائل الاثبات

العلة في الأمر “فأكتبوه” هي انعدام الثقة في الطرف الآخر هذه العلة مستفادة من النص

فقد جاء في الآيات التالية “فإن آمن بعضكم بعضا فليؤد الذي أؤتمن أمانته” فإذا وجد الآمان فلا جناح في ترك الكتابة

أما مثال العلة الخفية الغير ظاهرة في النص التي اذا انعدمت انعدم الحكم وهذه العلة مستفادة من ظروف الحال فمثال عليها : مجاهدة المنافقين

يقول سبحانه : (( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم )) التوبة 73

فالعلة الخفية هنا هي “الأذى” وهذا مستفاد من ظروف الواقع والحال

وهنا نأتي لمسألة “الحجاب” هل هو تشريع إجتماعي مرن (من المعاملات) أم هو تشريع تعبدي جامد (من العبادات)؟

تشريع الحجاب :

يقول سبحانه وتعالى في سورة النور آية 31

((وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ۖ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ۚ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )) صدق الله العظيم 

قوله : “ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ” قيل :ما ظهر بحكم العادة .. أذن نحن أمام تشريع يتناول مسألة معاشية اجتماعية كانت متروكة لعادة الناس

قوله : ” وليضربن بخمرهن على جيوبهن ….” إلخ الآية ,  يعني تدخل الله سبحانه تدخلا تشريعيا لتنظيم مسألة (الزينة واللباس) وتحويل الخمار من عادة كانت تغطي الرأس إلى عبادة ملزمة استطالت لتغطي معها الجيب (الصدر) .

قلنا كل الأحكام العملية المعاشية معللة بعلة أما ظاهرة مستفادة من ظاهر النص أو خفية تستفاد من ظروف وواقع الحال

العلة هنا : اتقاء الأذى

وهي علة ظاهرة مستفادة من النص :

من خلال استثناء المحرمون من الرجال (الأباء وأباء الأزواج والأبناء وأبناء الأزواج والأخوة وأبناء الأخوة)

واستثناء غير أولي الأذى والضرر ( النساء وغير أولي الأربة/ الشهوة من الرجال والطفل قبل البلوغ)

وقلنا غير أولى الأذى وليس فقط غير أولى الشهوة فقد تشتهي المرأة المرأة وقد يشتهي الرجل المعلول الذكر ولكن لا يتصور في الغالب الأعم حصول أذى منهن على المرأة إن هي أبدت زينتها أمامهما, كالطفل قبل البلوغ

وانعدام العلة = انعدام الحكم

فمتى تنعدم العلة (خوف الأذى) ؟

الجواب : في حالتين :

الأولى : انعدام الزينة

فإذا انعدمت الزينة انعدم الأذى والخوف من وقوعه

((وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) النور 60

وهذا الحكم في القواعد من النساء يعني أن غير القواعد هن زينة سواء تبرجن أم لم يتبرجن

والتبرج بالزينة = هو التزين بالزينة الملحقة أو المضافة

فالنظافة زينة كالاستحمام والاغتسال من القذارة كما في قوله تعالى ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد)

أما التزين فهو كالتطيب (التعطر) ووضع الكحل وارتداء الملون من الثياب بغرض التجمل فضلا عن ستر الجسد .. والمساحيق وخلافه من الزينة المضافة

الحالة الثانية : في وجود “المستثنون”

ففي وجود الأزواج , الأباء وأباء الأزواج …. والنساء وغير أولي الأربة الخ من استثنتهم الآية ينعدم خوف الأذى

إذن في غير وجودهم يظل خوف الأذى قائما .. فالمرأة بعيدا عن (المستثنون) يجب عليها ضرب الخمار على الجيب وعدم اظهار زينتها ومفاتنتها أمام (الغرباء)

بل في هذا الزمان صار على المرأة الاحتراس والإحتراز والاحتياط من بعض المحارم المستثنون في الآية من هول ما يقع من اعتداءات جنسية من محارم المرأة عليها .

إذن أذا انعدم وقوع الأذى أو خشية وقوع الأذى أصبح من حق المرأة اتخاذ زينتها ولكن ..

متى يصبح الغرباء موضع آمان للمرأة ؟!!

أولا : إذا كانوا غير أولي أربة (شهوة) كالخصيان قديما من العبيد كان يطلعون على زينة النساء

ثانيا : إذا توفر الردع

وإن كان توفر الردع (الشرطة مثلا) لا يحول دون وقوع الجريمة فحتى المجتمعات الاوروبية يحدث فيها حوادث تحرش واعتداءات جنسية وهذه أمور لا ينكرها أحد

ثالثا : التربية التي تميت الشهوة أول تهذبها

ولن يوجد مجتمع فاضل كمجتمع النبي محمد صلى الله عليه وسلم فقد كان النبي بين ظهرانيهم حين نزلت هذه الآيات بين الصحابة الذين هم أفعالهم وأقوالهم واحدة من (المرجعيات الأصولية) في الدين الإسلامي.

بل أن الحوادث الجنسية تقع حتى بين الرهبان وفي داخل الأديرة ولعلنا سمعنا جميعا عن حوادث التحرش بالأطفال داخل الكنيسة الكاثوليكية والتي كانت سببا هاما في تنحي البابا بنديكت السادس عشر عن كرسي البابوية بسبب تلك الفضائح.

رابعا : أن تصبح المرأة غير مرغوبة (من القواعد)

وهنا كما جاء في الآية يكن التعفف خيرا لهن (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) شرط عدم التبرج بزينة (الزينة المضافة) وبالتالي يكون التعفف بالخمار والاحتشام هنا فضيلة مستحبة في تلك الحالة لقوله تعالى “خير لهن” .

وبعد هذا العرض نتبين استحالة توفير الأمن (للمرأة المرغوبة) الذي ينعدم معه خشية وقوع الأذى الذي عليه مدار الحكم  بالحجاب والادناء وعدم ابداء الزينة

إذن الخمار المعروف والمشهور بين الناس (بالحجاب) تشريع اجتماعي قائم وملزم لاستمرار علته

والآن سؤال :

هل التشريع (المعاشي / الذي يتناول أمور معيشية) تشريع تعبدي؟

الجواب : كل تشريع معلل يكون ملزِما مادمت العلة موجودة , فهي وإن كانت موقوفة على العلة فهذا لا ينفي عنها صفة الإلزام طالما العلة لازالت قائمة .

وطالما ملزمة فإنه يتوفر في حقها الجزاء وهو إثابة فاعلها , وعقاب تاركها إن كانت واجبة أو اثابة فاعلها وعدم عقاب تاركها إن كانت مستحبة أو مندوبة ( كما في حكم القواعد من النساء) أو عقاب فاعلها واثابة تاركها إن كانت حراما أو اثابة تاركها وعدم عقاب فاعلها إن كانت مكروهة , أو لا يترتب عليها عقاب ولا ثواب كما في المباح

الخاتمة :

الحجاب فريضة واجبة من الله على النساء المرغوبات اللائي يرتجين نكاحا (غير الآيسات) , مستحب (للآيسات) غير المتبرجات الذين لا يرجون نكاحا

وأنها كانت عادة مباحة فصارت عادة متعبد بها (عبادة)

والله أعلم

كتبه / أحمد الأسيوطي – كاتب وباحث في الدراسات الإسلامية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

قم بإيقاف اضافة حجب الإعلانات لتتمكن من تصفح الموقع